البحث

التفاصيل

غزّة بين ولاءَين

الرابط المختصر :

غزّة بين ولاءَين

بقلم: محمد خير موسى

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

انطلقت جحافل العبور العظيم في السابع من أكتوبر تثير النّقع، موعدها أرضنا المغتصبة، فانقشعت بغبارها الرؤية خارج غزّة، واتضحت الصورة عندنا أكثر فأكثر.

ما إن رجع الأبطال إلى قواعدهم بما يحملون من أسرى، وعزّة ومهابة ترفعهم، وإذلال للعدو يخفضه، حتى غدت تل أبيب محجًّا وقبلة يقصدها زعماء العالم "المتحضّر"، وقد أخذوا يتقاطرون إلى الكيان زرافات ووحدانًا؛ بلينكن وزير خارجية أمريكا لم يكتف بالمسارعة لإعلان انخراطه في خندق "إسرائيل"، بل أعلن بكلّ وضوح وصراحة لا لبس فيها أنه جاءها بصفته "يهوديًّا" لا وزير خارجية! تبعته جحافل المعلنين انخراطَهم في خندق المواجهة؛ بايدن يأتي بنفسه ليشرف على إدارة الحرب، ثم يتبعه رئيس وزراء بريطانيا، ورئيس فرنسا، وغيرهم من ساسة العالم المتحضّر.. لم يأتوا متضامنين أو متعاطفين مع إسرائيل، بل جاؤوا معلنين انخراطهم في المعركة جنبًا إلى جنب معها في حربها وإبادتها غزّةَ وأهلها.

قدومهم هذا كان إعلانا صريحًا وتطبيقا عمليًّا للولاء، ولاء بعضهم لبعض، ومناصرتهم لكيانهم اللقيط، فلن تجد في التاريخ المعاصر ربّما صورة أكثر تجليًّا وتجسيدًا لمعنى قول الله تعالى: {والَّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ} من صورة الغرب الأمريكي والأوروبي في تعامله مع الكيان الإسرائيلي عقب السابع من أكتوبر.

لم يكن الولاء متمثلًا في الزيارات العاجلة وإعلان المشاركة في الحرب الهوجاء فحسب، بل تجلى هذا الولاء بالتطبيق العملي العاجل الفوري للمُناصرة؛ فانطلقت الجسور الجوية التي تحمل الأسلحة والقنابل الثقيلة من أنحاء العالم إلى إسرائيل؛ وتحركت البوارج والمدمرات باتجاه السواحل الفلسطينية، والغواصات النووية انطلقت تمخر قلب البحر أيضًا دون تأخير.

وتجنّدت وسائل الإعلام بقضّها وقضيضها معلنة النفير العاجل، والشروع في تبنّي السردية الصهيونية للمعركة، وترديد أكاذيب الجيش الإسرائيلي الفاقعة بكل ثقة، وشيطنة المقاومة، بل شيطنة أهل غزة جميعًا وتبرير قتلهم الجماعي، وقمع أي صوت مخالف لهذا الكذب العلنيّ.

إن كل هذه الأفعال وغيرها ما هي إلا تطبيق عملي، وصورة تنفيذية لمعاني موالاة الكافرين والظالمين بعضهم بعضًا، التي وردت في آيات عديدة من كتاب الله تعالى؛ فأنت تعاين من خلال هذه الموالاة العملية تفسيرًا تطبيقيًّا تراه بعينيك لآيات كتاب الله تعالى، في انخراط هؤلاء الظالمين والمعتدين في خندق مناصرة بعضهم بعضًا على هذه الأمة المكلومة، وأبنائها القابضين على جمر الحقّ والحقيقة.. وإن هذه الصورة من الولاء تدفعنا دفعًا لنرى الصورة المقابلة، فبضدّها تتمايز الأشياء.

منذ ستّين يومًا وحرب الإبادة تتصاعد على غزة دون هوادة؛ فما الذي فعله منذ أن بدأت الحرب مَن يفترض أنهم إخوة غزّة وأشقاؤها، تجمعهم بها أخوّة الإيمان والعقيدة، أو أخوّة اللغة والدم، أو أخوّة الإنسانيّة؟!

ما يزال معبر رفح مغلقًا، وتجاوز عدد الجرحى أربعين ألفًا إلى ساعة كتابة هذه السطور، بينما لم يُدخل الأشقاء منهم إلى مستشفياتهم سوى أربعمئة! لم يرسل أشقاء غزة إليها شيئا من الصواريخ أو المدرّعات، بل إنّ صواريخ الشجب والاستنكار جاءت خجولة، والكلام التضامني أتى باهتًا، وقرروا في قمة عاجلة انعقدت بشكل عاجل جدًّا بعد أربعة وثلاثين يوما من المذبحة فتح معبر رفح، ولكنه إلى الآن لم يفتح!

فهل رأيتم الفرق بين الولاءين؟! ولاء يتمظهر بإرسال الصواريخ والقنابل الثقيلة والبوارج، وتجنيد الإمكانات الاقتصادية والإعلامية كرمى عيون إسرائيل، وولاء لم يستطع إدخال قارورة ماء للعطشى في قطاع غزّة!!

هل رأيتم الفرق بين الولاءين؟ والله تعالى يقول؛ {والَّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ ۚ إِلَّا تَفْعلوه} وتوقف قليلًا أمام "إِلَّا تَفْعلوه" أي إن لم تقابلوا ولاء الكافرين والمعتدين بعضهم بعضًا بولاءٍ مقابل بالقوّة ذاتها والطّريقة نفسها والتعاضد والمساندة والمناصرة المكافئة، وإن لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض بالطريقة العملية التطبيقية التي يتجلى فيها {والَّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ} فماذا ستكون النتيجة؟! {إِلَّا تَفْعلوه تَكُن فِتْنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ}.

إنّ غياب المعنى التّطبيقي لولاء المؤمنين بعضهم بعضًا، وعدم مواجهة موالاة الكافرين بعضهم بعضًا بالآليّات ذاتها، ستكون نتيجته فتنةٌ في الأرض كلّها؛ فتنةُ المؤمنين عن دينهم ومبادئهم، وفتنة المؤمنين في أرضهم وديارهم، وتضييع حقوقهم وإراقة دمائهم، وتمكين المعتدين من رقابهم، وانقلاب موازين العدل في العالم إلى ما يهدّد البشرية كلها، وانتشار الفساد الكبير بغياب العدل وسيادة الظلم الذي يتولّى كِبره مدّعو الحضارة الزّائفة، يساندهم في ذلك المؤمنون المتخاذلون الفاقدون معاني الولاء الحقيقي.

إن غزّة اليوم تقدّم أعظم الدّروس التطبيقية العملية في عقيدة الولاء والبراء؛ وتصنع أمام أعين المسلمين نموذجًا لما هم عليه من تناقض جليّ، يتمثل في تشبث أهل الباطل بالولاء الظالم، وتخلي أهل الحق عن الولاء الواجب الذي هو من صميم عقيدة الإيمان، والذي طالما ارتفعت عقيرة المتحدثين به لتفسيق وتبديع وتضليل شرائح من المسلمين؛ فإذا جاء اليوم الذي تقدّم فيه غزة دروس العقيدة في معاني الولاء والبراء غابت أصواتهم وابتلعوا ألسنتهم، لتبقى غزّة وما تجسّده من صورة الولاءين المتناقضين مثل "براءة" كاشفة فاضحة، ومثل "الواقعة" خافضة رافعة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
الأقدار والأسباب بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف
السابق
متحدثون في "القمة الأوروبية حول فلسطين" يشددون على ضرورة إنهاء "مجازر" الاحتلال في غزة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع