الرؤية الكونية الإسلامية والعلم الحديث
المقال السابع عشر- الرؤية الكونية الإسلامية والعلم الحديث
بقلم: بدران بن لحسن
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(اقرأ: المقال السادس عشر- العلوم الإسلامية: التداخل والتكامل)
يشعر كثير من المسلمين بأن الحضارة المعاصرة بقدر ما أتاحت فرصا كبيرة للإنسان للارتقاء والتحضر في جوانب عديدة؛ اجتماعية واقتصادية وتقنية.. الخ، فإنها حاصرت إنسانية الإنسان، وأفسدت عليه كيانه، فصار يعاني من أزمات روحية وفكرية وأخلاقية وبيئية وغيرها. وهذا أمر لا ينكره من أعمل أدنى تأمل في الحضارة المعاصرة ومنتجاتها المختلفة وآثارها على الإنسان والعمران والطبيعة.
لكن بمجرد أن تطرح أمر مراجعة هذه الحضارة ومساءلتها ونقد أسسها، ومسلماتها، ورؤيتها الوجودية، ومناهجها المعرفية، فإن سيلا من الاستنكار يواجهك؛ إما بحجة أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإما بحجة أن الكلام الذي تقوله كلام أيديولوجي ينطلق من دوافع أيديولوجية وليست دوافع علمية، وإما بحجة أن نقد الحضارة الغربية لا ينبغي أن ينطلق من وجهة نظر أيديولوجية أخرى بزعمهم، وإما بموقف مسبق مضاد لفكرة نقد الحضارة الغربية ذاتها، وغيرها من الاعتراضات.
ولكن دعنا نتساءل عن الحضارة المعاصرة، وعن الرؤية الكامنة التي أنتجتها، وعن مشروع الحداثة الغربية، ومفاهيمه ومرتكزاته، ومقولاته في العقل والعلم والطبيعة والانسان. هل هذه الحضارة وما يتعلق بها من قيم ومشروع ناتجة عشوائيا، أم أنها تنطلق من رؤية ما؟ وهل هذه الرؤية تتفق مع نجده راسخا في الإسلام من رؤية توحيدية، ومن قيم للحقيقة وللخير وللمعرفة وللإنسان وللمجتمع والعمران؟!
ولذلك فإن الحديث عن الحاجة إلى نقد إسلامي للعلم الحديث ليس حديثا أيديولوجيا، بل هو حديث معرفي عميق، ينظر إلى العلم في بنائه الكلي وفي خلفياته المؤسسة وفي ثمراته في الواقع. بل إن ما ينبغي التأكيد عليه أن هناك فرق بين العلم باعتباره منهجا لبناء المعرفة والوصول إلى الحقيقة، وبين العلموية (Scienticism) التي هي رؤية للعالم، أو رؤية كونية، ينطلق منها العلم الحديث، ويحولها على أيديولوجيا ورؤية فلسفية للحقيقة، تنظر إلى العالم بطريقة تخالف ثوابت الإسلام وأسسه الدينية والفلسفية، كما تختزل العلم في حيز ضيق.
إن هناك تعارض جوهري بين الرؤية الكونية الإسلامية وبين الرؤية العلموية؛ بمعنى أن النظر إلى العالم، والتصور عن العالم والكون والحياة والأصل والمصير كما -جاء بها الإسلام - تتعارض مع المفاهيم العلمانية والمادية والاختزالية للعالم الطبيعي التي صاغتها الرؤية التي تسمى بالرؤية "العلمية" للعالم. وهي في الحقيقة ليست رؤية علمية بأي معنى من المعاني، ولكنها بناء أيديولوجي للعلم، باعتبارها نظرة بديلة للنظرة الدينية، ولهذا أسماها كثير من نقادها النظرية "العلموية" التي بني عليها العلم الحدث.
وتسعى العلموية (Scientism) إلى استبدال النظرة الدينية للكون، واختزال الدين في دائرة ضيقة جدا، دون أن يكون للدين حضور في الشأن العام، ولا له دخل في الطبيعة ولا في الواقع. وهذا يفسر جزئيًا سبب استخدام الإلحاد الحديث للعلموية لإثبات ادعاءاته ضد الإيمان الديني. ولذلك فإن الجدل حول إمكانية التوفيق بين الإسلام والعلم لا يدور حول العلم بقدر ما هو حول الادعاءات غير المؤيدة للعلموية وحججها الفلسفية المريبة.
ولقد كان السعي لعلمنة العالم من أهم نتائج الثورة العلمية. والرؤية العلموية التي نتجت عن هذا المسار اختزلت الطبيعة في مادة ميتة، وجردت العالم الطبيعي من أي صفات جوهرية. ورفضت الرؤية العلموية "مبدأ الخلق" الذي يقول به الأديان؛ أن الكون كله مخلوق لله تعالى بما فيها الطبيعة المادية. واستبعدت العلموية أن تكون الطبيعة مخلوقة لله، ورأت أن ذلك أمر ميتافيزيقي أسطوري أو خرافي، لا حاجة لنا إليه مع الثورة العلمية، وبهذا فإن النظرة العلموية استبعدت أي غائية وأي مقصدية من وراء العلم والمنتجات العلمية، بل اعتبرت أن الأمورَ تنتهي في المادة كما بدأت منها.
فكانت نظرية التطور الداروينية على سبيل المثال رمزا للمعركة الملحمية بين الدين والعلم في الغرب، وهذا جلب كثيرا من التوتر للفكر الإسلامي في العصر الحديث، لأن هذه النظرة العلموية وفي نسختها الداروينية، تعارض تماما ثوابت الايمان بمبدأ الخلق، الذي هو مبدأ أساسي ثابت في تفسير الحياة على الأرض.
لذلك من غير المكن التوفيق بين الافتراضات الفلسفية للعلموية الحديثة وبين النظرة الدينية للكون التي يضع القرآن والسنة أسسها وتعرفها التقاليد العلمية الإسلامية. فهما رؤيتان ومنظوران لا يمثلان مجالين منفصلين فحسب؛ أي الدين والعلموية، بل يمثلان طريقين مختلفين للنظر إلى الواقع والكون، مع مقدمات مختلفة جذريًا، بل غالبًا ما تكون متعارضة.
إن الرؤية الكونية أو رؤية العالم أو التصور عن العالم الذي ينتج من كلا الرؤيتين له نتائج عميقة وبعيدة الأثر على مفهوم العلم، والنظريات المتعلقة به، والممارسة العلمية ذاتها في أي حضارة من الحضارات.
ولهذا فإننا في الوقت الذي نجد كثيرا من أبناء المسلمين من التقنيين والمهندسين والتكنولوجيين الذين يركزون على التطبيقات العملية للعلم ويعتبرونها ضرورية لتقدم المجتمعات الإسلامية في القرن الحادي والعشرين، فإن فلاسفة العلم والمفكرين والنخبة التي استوعبت عمق الاختلاف بين الرؤية الكونية الإسلامية وبين الرؤية العلموية التي أثمرت العلم الحديث تنبه إلى ضرورة انتقاد الأسس الفلسفية والأيديولوجية للعلموية ويسعون إلى فلسفة علوم بديلة لفلسفة العلوم الحديثة.