تفكيك منظومات الاستبداد (35): دعوة مجددة إلى إحياء الربيع العربي
كتب: أ.د. جاسر عودة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
نشرت (مقالة رأي) في هذه السلسلة على هذه الصفحة في اليوم السابع والعشرين من شهر أكتوبر ٢٠٢٣م -أي بعد عشرين يومًا من بدء الحرب على غزة-، كان عنوانها: (إما اعتدلت وإما اعتزلت - دعوة لإحياء الربيع)، وكتبت فيها أقول:
(في مثل موقف الحرب التي يراد بها الإبادة الجماعية لمئات الألوف من الناس -وهو ديدن لا يتخلف عن الحروب الصليبية كما قلنا في المقالة السابقة- تأتي لحظة إثبات أحقية القيادة، ويحين أوان دفْع حكام المسلمين لثمن ما يحوزونه لأنفسهم من مقدرات الأمة بصفتهم حكامها. المعادلة الشرعية ليست هي "التغلب" على الشعوب المستضعفة بالسلاح لكي يحكمها حكامها حكم كسرى وقيصر. هذه بدعة ظهرت في بلاد المسلمين منذ القرن الأول الهجري للأسف، وكانت بدعة باطلة وستظل بدعة باطلة. شرعية الحكام -وسلطاتهم وامتيازاتهم وعدم الخروج عليهم- منوطة بإثبات أنهم حريون بهذه المكانة ويقومون بأبسط واجباتها، وإلا عزلتهم الأمة أو أهل الحل والعقد فيها من العلماء الشرفاء وأصحاب الرأي وأصحاب الدين والشأن والخبرة والنسب، حسب السياقات المختلفة للدول المختلفة. هذا هو مقتضى فقه السياسة الشرعية، وهذا ما ننادي به اليوم … أيها الشباب الواعي من أمتنا المجيدة! لا يمكن أن تتغير خطة إبادة وتغيير لخريطة منطقة بأكملها كما نرى بأم أعيننا، في قتل وتهجير شعب كامل -والآن لا مجال لإنكار هذه الأهداف وقد أصبحت معلنة- لا يمكن أن يتغير هذا المسار بمزيد من الاحتجاجات المدنية التقليدية والتغريد على منصة إكس وتبادل الرسائل الحماسية على واتساب وصنع الفيديوهات على يوتيوب، خاصة في الدول غير "الديمقراطية" حيث لا تمثل تلك الاحتجاجات المدنية التقليدية أصواتًا انتخابية ولا مصالح اقتصادية ولا ضغطًا ذا بال. هذه الأفعال قد فات أوانها اليوم. ولا يحتمل أن يكون رد الحكام الفارغ بأنهم يحافظون على أمن بلادهم! لأن هذا يعني انفراد الغزاة بالبلاد واحدًا تلو الآخر -إلا الذي يسجد لهم ويقدم فروض الطاعة والولاء-. اقرأوا التاريخ وستجدون سيناريو الأندلس يعود بحذافيره، هي قصة الثور الذي قال حين حان موعد أكله: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض". لا ينبغي أن تغيب هذه الحقائق عن الشباب الواعي من أمتنا المجيدة!). [رابط المقالة في الهامش أدناه]
واليوم بعد مرور عشرة أشهر من الحرب لم تستجد أي قوة مؤثرة للرد على العدوان سوى قوة المقاومة بأشكالها وصورها -نصرهم الله وأيدهم- ، ولم يؤثر في مسار الحرب من خارجها إلا بعض الأصوات الشريفة والنفوس الحرة من شباب وأساتذة الجامعات في بعض بلاد الغرب، وهؤلاء ضغطوا قليلًا على الواقع بمناسبة موسم الانتخابات في عدد من البلاد في هذا العام ٢٠٢٤م، وخاصة في أمريكا، فأنجزوا ثلاث نتائج لا رابع لها:
(١) تأجيل المحاربين لخططهم المبيتة بذبح البقرات الحمر وهدم المسجد الأقصى -والتي ما زالوا يخططون لها على أي حال-، و(٢) تأجيل الحديث عن استعمال أسلحة نووية -من النوع محدود التدمير-، والذي ما زال خيارًا مطروحًا على طاولتهم يناقشونه بين الحين والآخر، و(٣) إدخال قدر شحيح من المساعدات التي تسمى (إنسانية)، ولو أنها مغموسة بدماء الشهداء الذين يقصفون أحيانًا عند استلامها، مما تجنبت به غزة -إلى اليوم- موت مئات الألوف خلال أيام معدودة كما كانت نوايا المحاربين التي لا يخفونها. وما عدا ذلك، فالإبادة الجماعية لغزة -كل غزة- جارية على قدم وساق، والوضع ينحدر بسرعة، والمحاربون الآن يتحدثون عن حرب أكبر تتيح لهم الوصول إلى دولتهم التي يحلمون بها من النيل إلى الفرات، لا يخفي قادتهم هذه النية، ولماذا يخفونها وليس هناك رادع ولا وازع؟
إذن، ما زالت الدعوة إلى إحياء الربيع العربي هي في تقديري الدعوة الوحيدة التي يمكن أن تعكس المسار الكارثي التي تتجه إليه أمتنا. إذا لم تقف الشعوب العربية -والمسلمة بشكل عام- وقفة جادة مع حكامها، تحاسبهم على مسؤوليتهم في وقف هذه المهزلة التي تتعرض لها أمة الإسلام -خاصة في دول الطوق المحيطة بفلسطين-، فلْينتظروا أن تحكمهم (إسرائيل الكبرى) قريبًا، وأن تطّرد سنن الله تعالى في استبدال جيل الهزيمة من الفاسقين بجيل النصر من المؤمنين، ولكن بعد أربعين سنة من التيه.
ونقرأ ما قاله تعالى عن قصة قوم موسى، والتي تنطبق على أحوالنا اليوم:
(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين. قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين - المائدة ٢١-٢٦).
—
هامش: رابط المقالة المذكورة بتاريخ ٢٧ / ١٠ / ٢٠٢٣م
https://iumsonline.org/ar/ContentDetails.aspx?ID=31333
—