البحث

التفاصيل

العالمية الإسلامية الثانية (2)

الرابط المختصر :

العالمية الإسلامية الثانية: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف 9]

الحلقة الثانية

الكاتب: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

***

اقرأ الحلقة الأولى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِالْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[الصف 9]

***

لقد قرأنا الكثير من البشارات النبوية التي تطمئن المؤمن بعودة الإسلام وهمينة الدين على الحياة، كما جاء في الحديث: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله - تعالى -، ثم تكون ملكا جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله - تعالى -، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة. ثم سكت..."[1]، وقرأنا قبل ذلك في السيرة النبوية معاناة الصحابة رضي الله عنهم في بداية الدعوة خاصة وكيف ضاقت بهم الأرض بما رحبت، كما روى ذلك خباب بن الأرث رضي الله في قوله: "شَكَوْنا إِلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّد بُرْدة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعو الله لنا؟ فقال: قد كان مَنْ قبلكم يُؤخَذُ الرجل، فيُحْفَر له في الأرض، فَيُجْعَلُ فيها، ثم يُؤْتَى بالمنشار، فيوضَعُ على رأْسه، فيُجْعَلُ نصفين، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يَصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يَسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إِلى حَضْرَمَوْتَ، لا يخاف إِلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون"[2]، فقد أتم الله حقيقة وعده، وسوف تعود الخلافة على منهاج النبوة بلا ريب، ونؤمن بذلك بلا شك، ولكن لم ننتبه إلى أن تلك الحقيقة لا بد لها من روافد مادية ومعنوية؛ لأن الوجود مبني على سنن وقوانين يسير وفقها، فلا تتقدم ولا تتأخر إلا بالقدر المتوفر من الأسباب والشروط المتربطة بها. فالحقيقة الثابتة أن الله متم نوره وسيعيد الكرة، ولكن الأسباب المباشرة لذلك والجهود الكبيرة التي ينبغي توفرها هي التي تحقق ذلك الوعد الإلهي (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف 9]، وذلك ما فهمه الخليفة أبو بكر الصديق من قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر 9]، يوم حروب الردة موت الكثير من القراء، شعر أن عدد القراء بدأ يتناقص في أوساط المسلمين بسبب ما مات فيها من القراء الكثر، حتى دعا إلى تدوين القرآن وكتابته حتى لا يضيع، فلم يقل الصديق إن الله حفظ كتابه... ويكفينا ذلك لحفظه، وإنما بادر بما يجب عليه ويحقق هذا الحفظ الذي أراد الله له ألا يتحقق إلا بنشاط الرجال وجهودهم، ولذلك كانت الإضافات والانتصارات دائما تتحقق بفضل الاجتهاد والجهاد؛ لأن القانون لكل فعل يراد تحقيقه الاستعداد والعزيمة والنشاط كما قال تعالى (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة 46]؛ بل اعتبر عدم الانشغال بموضوع الإعداد والاستعداد نوع من الخذلان الذي يبغض الله أهله ولذلك (كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ).

والسبب في تأخرنا عن الركب، وعدم انتباهنا إلى أن تلك البشارات، وانتصارات الإسلام عموما على خصومه وأعدائه، هو أننا لم نرتق بمعارفنا إلى أن الوجود تحكمه قوانين وموازين قوة وتقدم وتخلف وعلم وجهل ونصر وهزيمة... وكل ذلك يسير وفق منظومة معرفية عملية، لم نعطها حقها اللازم.

صحيح الحضارة القائمة مادية، وهي حضارة عرجاء بسبب افتقادها للقيم والأخلاق والأمور غير المادية، ولكنها قوية وتمتلك من القوة التي تحقق لها الانتصارات ما تحسم به الكثير من الصراعات مع خصومها وأعدائها، ومنظومتنا القيمية بلا شك هي أفضل بكثير من هذه الحضارة، ولكن بسبب ضعفها وتخلفها عن مبدأ امتلاك القوة وأسبابها، يحعلنا نخسر في معاركنا معه ما لم نرتق إلى تقدير الأمور حق قدرها؛ لأن الأفضل ليس يعني تحقيق الغلبة؛ لأن قانون الغلبة احكمه قوانين تختلف عن قوانين القيم والفضائل، والجمع بينهما هو المطلوب. فقانون الغلبة وحده قد يطغي أهله، وقانون الفضيلة بمعزل عن القوة لا يحسم المعارك وحده. 

ومثلما تابعنا وآمنا بالبشارات التي بشرنا بها القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم، قد قرأنا الكثير من الدراسات المبشرة بسقوط الغرب وأفوله؛ بل ربما منذ قرن من الزمان والعالم يتكلم عن سقوط الغرب وأفوله بسبب ما يحمل من بدور الفناء في منظومته الفكرية، إلا أنه لم يسقط!! لأن سقوطه يقتضي صعود قوة أخرى لتستلم المشعل، لأن الطبيعة تأبى الفراغ، فلا يمكن أن يسقط المرشح للسقوط إلا بوجود قوة أخرى صاعدة تحل محله. وهذه القوة المنافسة هي القوة الإسلامية، ولكن هذه القوة تمتلك من الشرعية القيمية والقوة المعنوية الكثير، ولكنها لا تزال في حاجة إلى المعرفة العميقة بأسباب النجاح والتفوق وأبجديات النضال السياسي والعسكري والخطوات التي ينبغي اتباعها في كل ذلك.

لا شك أننا خير أمة اخرجت للناس (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران 110]، أن نصر الله لنا سنة كونية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد 7]، وأن الله مع المتقين الصاربين والمحسنين والمؤمنين (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة 194]، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة 153]، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل 128] (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال 19]، ولكن كل ذلك مشروط بقيم أخرى مرتبطة ولها قوانين ناظو لها من حصلها اكتسب فضائلها، وذلك من سنن الله في الوجود ويستوي فيها الناس من أقامها أخذ بحظ وافر منها، ثم إن حب الله لنا ومعيته لا تفارقنا، ولكنه لا يحب فينا المعصية والكسل والتفريط والتخاذل واللافاعلية؛ بل إنه يدافع عنا باعتبارنا مؤمنين (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج 38]، ولكن لا يحب الخوان الكفور، فلا يجتمع الإيمان والجبن إلا في نفس مريضة ومختلة.

وهذه الشرطية ليست مفتوجة على مصراعيها؛ بل إن كل تقصير فيها تأثم به الأمة، ولكن عندما يشيع الخذلان والخوف والخور وتتأخر الأمة في توفير أسباب الناصر وتحقيق مراد الله، فإن الله أخبرنا باسغنائه عنا (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [محمد 38]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة 54]، ولا تهم الكيفية التي يستخدها الله في الإتيان بالأقوام الآخرين الذين لا يكونون أمثالنا، سواء بالتدرج بذهاب أجيال ومجيء أجيال أخرى، أو بالحروب التي تحصد الأرواح بالملايين ليحل محلاها ملايين أخرى أفضل غند الله، أو بأي شكل من الأشكال، لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو ضرورة الشعور بهذا التقصير الذي يحكمنا منذ قرون؛ لأن ذهابنا والإتيان بغيرنا، معناه أن الله غير راض عما نقوم به رغم أنه يحب ما بنا من بقايا إيمان تسكن النفوس، بسب التقصير أو الأخطاء المتراكمة أو الاستكانة والضعف وحب السلامة.

يتبع

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

 



[1]- هداية الرواة رقم 5306 عن النعمان بن بشير أنظر الدرر السنية

[2]- رواه البخاري وغيره، ابن الأثير، جامع الأصول رقم 4631


: الأوسمة


المرفقات

التالي
القره داغي يدعو للتحرك لإنقاذ الأقصى من المخططات الصهيونية ويحذر من تهاون الأمة الإسلامية
السابق
التمويل الإسلامي الرقمي: مزاياه، ومخاطره

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع