هل لم يبق
من هذه الدنيا إلا زمن الشر؟
كتبه: د. فهمي إسلام جيوانتو
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
تعاني أمتنا من الأفكار التي تقتل إرادتها والتصورات
التي تغتال آمالها، وما أكثر تلك الأفكار الهدامة التي نحن بحاجة إلى محاربتها لكي
نفتح أبواب العمل للنهوض والتقدم!
ومن تلك الأفكار: اعتقاد أننا في آخر الزمان الذي لم
يتبق منه إلا أسوأه ولن يأتي إلا بما هو أسوأ من ذلك، عياذا بالله! وهذه فكرة
خطيرة بثها ويبثها الأعداء المغرضون والأصدقاء المغفلون للأسف الشديد.
والفاجعة الكبرى أن هذا الاعتقاد الهدام انتسب إلى حديث
صحيح! وبطبيعة الحال ليس الإشكال في الحديث، فإن صحته لا غبار عليه ولكن جنى علينا
الفهم السقيم.
والحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد وابن حبان وغيرهم عن
الزبير بن عدي[1] قال: أتينا أنس بن مالك - رضي الله عنه - فشكونا
إليه ما يلقون من الحجاج.
فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي
بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.[2]
ورحم الله الإمام ابن حبان إذ أورد هذا الحديث في كتابه تحت
عنوان: "ذِكْرُ خَبَرٍ أَوْهَمَ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ صِنَاعَةَ الْحَدِيثِ
أَنَّ آخِرَ الزَّمَانِ عَلَى الْعُمُومِ يَكُونُ شَرًّا مِمَّا يقدم منه" فإن
هذا الحديث إنما ورد في سياق خاص وزمن خاص ولأناس مخصصين، كما سنبينه إن شاء الله.
لقد جزم ابن حبان رحمه الله أن هذا الحديث لا يدل على
العموم بل كان خبرا خاصا في ظروف محددة وزمان خاص، بل رأى ابن حبان أن الذي توهم
عموم الحديث لم يحكم ولم يتقن صناعة الحديث النبوي الشريف - على صاحبه الصلاة
والسلام.
ثم أورد ابن حبان بعد ذلك حديثين تحت عنوان "ذكر
الخبر المصرح بأن خبر أنس بن مالك لم يرد بعموم خطابه على الأحوال كلها"، فأورد
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ
لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَاّ لَيْلَةٌ، لَمَلَكَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم." وحديث ابن مسعود قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم: "لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا
إِلَاّ لَيْلَةٌ، لَمَلَكَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ
اسْمِي."
وزاد تأكيدا بالخبر الذي بعده تحت عنوان "ذكر
البيان بأن خروج المهدي إنما يكون بعد ظهور الظلم والجور في الدنيا وغلبهما على
الحق والجد"، فساق حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَمْتَلِئَ الأَرْضُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا،
ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، أَوْ عِتْرَتِي، فَيَمْلَؤُهَا
قِسْطًا وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا." فهي دلالة واضحة
أن زمن الشر قد يعقبه زمن الخير، بل أكد القرآن دائما، أن الشر في زوال أكيد،
والخير هو الباقي، وهذه سنة الله الثابتة، كما سيتبين لاحقا إن شاء الله.
ومما يدل على أن الحديث خاص قيد "عليكم" في
قوله عليه الصلاة والسلام "لا يأتي عليكم زمان"، فالحديث خاص
بالمخاطَبين وهم الصحابة ومن في زمانهم، فإنهم قد وصلوا القمة في الخير، وليس بعد
القمة إلا انحدار، وهو انحدار ونزول تدريجي، فعصر الصحابة مع الرسول صلى الله عليه
وسلم، ليس كعصرهم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وعصر التابعين مع وجود الصحابة
ليس كعصرهم بعد انقراض الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا. ولكن لا يعني ذلك أن حياة
البشر كلها في نزول مستمر لا نهوض بعده ولا تحسن إلى يوم القيامة. كلا! فالخير في
أمة محمد صلى الله عليه وسلم باق إلى قيام الساعة.
وليت الإمام البخاري لم يحذف هذا القيد (لفظ
"عليكم") في ترجمته للحديث، فإنه قد ساق هذا الحديث في "باب: لا
يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه" مما أوهم الناس أن الحديث يدل على
العموم، وليس كذلك في الحقيقة.
وهذه حقيقة قرآنية محكمة لا يدحضها شيء، والقرآن كله
تبشير بقدوم الخير وبقاءه وغلبته على الشر. واقرأ قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].
وقول الله تعالى: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49].
ولا يأتي الإسلام إلا لينتصر الحق على الباطل، ولا ينزل
الدين إلا ليظهر الخير على الشر، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33، الصف: 9].
وهذه هي روح القرآن ولب الإسلام، وهو القانون الثابت
وسنة الله التي لا تبديل فيها ولا تحويل، قال الله تعالى مقررا هذا القانون العام:
﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ
السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ
حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد:
17]
والآيات في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحدبث: ويحتمل
أن يكون المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة، بناء على أنهم هم المخاطبون بذلك،
فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد في الخبر المذكور.[5]
والحق أن هذا الاحتمال قد حسم بتلك الأدلة التي ذكرناها،
فالتخصيص هو المتعين الذي لا يصح غيره. فإنه هو الذي يتسق مع الحقائق القرآنية
ويصدقها الوقائع التاريخية.
ويؤكد هذا التخصيص بوضوح:
الحديث المتفق عليه عن حذيفة بن
اليمان رضي الله عنهما يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في
جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل
بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخَن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون
بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على
أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من
جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: الزم جماعة
المسلمين وإمامهم. قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق
كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.[6]
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن
بعد زمن الشر يأتي زمن الخير، فهما متعاقبان، وليس الشر في تنام مستمر أو الخير في
تناقص دائم. بل كلاهما باقيان ما بقيت الحياة في الدنيا، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35]
وقد أدرك الحافظ بدر الدين العيني هذا الإشكال، أي توهم
التزايد المستمر للشر، فقال: فإن قلتَ: هذا الإطلاق مشكل لأن بعض الأزمنة يكون في
الشر دون الذي قبله، وهذا عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه، بعد الحجاج
بيسير وقد اشتهر خيرية زمانه بل قيل: إن الشر اضمحل في زمانه.
قلتُ: حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن
وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال: لا بد للناس من تنفيس.
وقيل: إن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر، فإن عصر
الحجاج كان فيه كثير من الصحابة أحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا،
والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله خير القرون قرني، وهو في
الصحيحين وقوله: أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون، أخرجه
مسلم.
فإن قلتَ: ما تقول في زمن عيسى، عليه السلام، فإنه بعد
زمان الدجال.
قلتُ: قال الكرماني: إن المراد بالزمان الزمان الذي يكون
بعد عيسى، عليه السلام، أو المراد جنس الزمان الذي فيه الأمراء وإلا فمعلوم من
الدين بالضرورة أن زمان النبي المعصوم لا شر فيه.
لقد أصاب الحافظ العيني في اختياره أن هذا الحديث ليس
على عمومه، لكنه جعل أزمنة الخير استثناءات، بل الصحيح عكس ذلك، فإن الخير هو
الأصل، والشر استثناء، كما تبين سابقا من خلال استقراء الآيات القرآنية.
قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17].
فالخير هو أساس الكون وإنما يأتي الشر طارئا عليه كالزبد
لا يلبث أن يذهب ويتلاشى، ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ
﴾ [الرعد: 17]
صدق الله العظيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ