لماذا الإسلامية العالمية الثانية؟ | الحلقة
الثالثة
الكاتب: التهامي مجوري
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
***
- اقرأ الحلقة الأولى منالعالمية الإسلامية
- اقرأ الحلقة الثانية منالعالمية الإسلامية
***
نشرنا في حلقتين سابقتين هنا في هذا الموقع تحت عنوان
"الإسلامية العالمية الثانية" منذ مدة، وكنا ننوي عرض المبررات العلمية
لهذه العالمية، في حلقات لاحقة، ولكن لم يتيسر لنا ذلك... وها نحن نعود إلى
الموضوع لعرض تلك المبررات بهذا المقال: "لماذا الإسلامية العالمية
الثانية"؟
التهامي مجوري
ونقصد هنا بالإسلامية العالمية الثانية، عودة الإسلام
كمنظومة فكرية ومعرفية وتربوية واجتماعية وسياسية لتحكم البشرية من جديد؛ لأن
المنظومة الإسلامية تمثل القوة الأمثل للإنسان السوي، وقد شهد بذلك الخصوم قبل
الأعداء، ففي نهاية التاريخ لفوكو ياما يرى أن التجربة الأمريكية لا يوجد لها
منافس في التاريخ إلا الإسلام؛ لأن الاسلام يمتلك منظومة فكرية متكاملة تغطي حاجات
الإنسان وفق منظور مختلف.
ثم إن فشل المنظزمة الغربية في قيادة العالم، يقتضي أن
تكون هناك قوة أخرى صاعدة، يتوقعها الغربيون في الإسلام والكونفشيوسية، ولكن في
اعتقادنا أن جميع الفلسفات الأخرى قد تتقاطع مع الإسلام في بعض القيم والمصالحة
السياسية والاقتصادية، ولكنها لا تبلغ الرؤية الإسلامية للوجود... ولكن كيف تلتقي
القوتان - الإسلام والكونفشيوسية- في إطار جامع بينهما في مواجهة المنظومة الغربية
والفراغ الذي ستتركه هذه المنظومة؟ ذلك أمر آخر يطول الخوض فيه الآن.
وفي مشروع الأستاذ أبو القاسم حاج حمد أن "العالمية
الإسلامية تعبير عن دلالة الكتاب التاريخية حيث يطرح تنامي الدورات الدينية ضمن
أربع مراحل بداية بدورة العائلة آدم، ثم الدولة القبلية: بنو إسرائيل، ثم الدورة
الأمية العالمية الإسلامية الأولى التي شملت غير الكتابيين ما بين المحيطين
الأطلسي غربا والهادي شرقا، منطقة "الوسط" في العالم القديم، ثم الدورة
العالمية الشاملة "العالمية الإسلامية الثانية" حيث يظهر الهدى ودين
الحق على مستوى العالم كله فيستوعب ويتجاوز كافة الأنساق الحضارية الدينية
والمناهج المعرفية لما تبقى من الشعوب الأمية غير الكتابية وتلك الكتابية، ويُسْتمد
مفهومنا لهذه الدورة الحضارية الدينية، التي تبدأ بالعائلة وتنتهي إلى الكل
البشري، ومن سياق الإلهي التاريخي في القرآن الكريم، كما فصل ذلك حاج حمد في
كتابيه: الاسلامية العالمية الثانية، ومنهجية القرآن المعرفية، على أنه خطاب يقوم
على التدافع بين هذه الحالات وحالات أخرى نقيضة لها ومماثلة لها من جنسها.
ففي مقابل إبليس كان هناك آدم، وفي مقابل فرعون كان هناك
موسى وقومه، وفي مقابل الأمية الرومانية ذات الجذور الهيلينية وإن اتخذت المسيحية
بشكل معين، وكذلك مماثلها الأمي الفارسي، كانت هناك عالمية الأميين الإسلامية
الأولى، وفي الحضارة الوضعية العالمية الراهنة والشاملة والتي تنطلق من المركزية
الغربية والعولمة الأمريكية، هناك عالمية الإسلام الشاملة أيضا والتي يليها بإذن
الله.
فمهفوم الدورات التاريخية والتدافع الحضاري منذ آدم وإلى
عصرنا الراهن وما بعده محكوم بسياق قرآني يستند إلى منظور دفع الحق بالباطل، وما
الوجود الإسرائيلي المعاصر الذي جاء من وراء التاريخ إلا مقدمة لإنهاء عالمية
الإسلام الأولى وفرض الحقبة الوضعية على الإنسان العربي".
وهذا الموقف التحليلي للمنظومة القرآنية، لا يقف عند
تقسيم وتصنيف الآيات القرآنية ليضعها في ذلك السياق الذي ذكره بمراحله الأربع: آدم
وبني إسرائيل والإسلامية الأولى، ثم الإسلامية الثانية، أو بعبارة أخرى مرحلة
العائلة والقوم والأمية –الأمة الوسط-، والإنسانية، وإنما يتعداه إلى وضع اليد على
تطور العقل البشري والمراحل التي مر بها عبر التاريخ ليصل إلى المستوى الذي هو
عليه الآن فيقول: "مراحل تطور العقل
البشري من الاحيائية وإلى الثنائيات المتقابلة وإلى وحدة القوانين الطبيعية
والإنسانية فيما عرفته بفلسفة العلوم الوظيفي، واضعا بذلك إسلامية المعرفة في
مقابل الفلسفات المادية والوضعية بأشكالها المحتلفة.
فإسلامية المعرفة هي
الضرورة الملحة ليس للمسلمين فقط ولكن للمؤمنين كافة وفي العالم كله. وهذا منطق
أساسي في عالمية الرسالة"،
ويقصد بالمؤمنين الكافة، المؤمنون بوجود الله من أهل الشرائع الأخرى –لا يسلم لهم
بالإيمان بالمعنى الشرعي بطبيعة الحال-؛ بل يتجاوزهم إلى أهل المنظورات الوضعية
أيضا؛ لأن الخطاب القرآني المعرفي قد تجاوز ما توصلت إليه الإنسانية كلها بجميع
مدارسها، وصدق علامة الجزائر الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله الذي عرف
الإسلام في المادتين الأولى والثانية من الأصول العشرين لدعوة جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين بقوله "الإسلام هو دين الله الذي أرسل به جميع رسله
ةآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دين البشرية الذي لا تسعد إلا به".
و"ملامح المنهجية
المعرفية القرآنية والتي يتكشف مكنونها بداية بخطاب إلهي حصري واصطفائي، موجه إلى
أقوام محددة وانتهاء بخطاب عالمي يتسع للناس كافة، وأطّر هذا الخطاب الإلهي وتدرجه
التاريخي ومنتهيا بحتمية ظهور الهدى ودين الحق منهجا للمعرفة".
وتفاصيل ذلك، ليس في مجرد المقارنة بين ما أنتجت
المنظومات الأخرى من أفكار ومواقع ومعارف، وما جاء به الإسلام بمقرراته القرآنية،
وإنما بمنظور مستوعب لطروحات المدارس الفكرية التي أنتجتها الإنسانية عبر التاريخ،
وتجاوزتها إلى خطاب أشمل وأوسع وأعم في مدارك الواقع البشري والطموحات الإنسانية،
والمراد الإلهي العادل الذي لا يفرق بين الناس، بآيات من كتاب الله لا تقل أهمية
وصدقية وفاعلية عن قانون الجاذبية وسلطانها على الجانب المادي من الحياة.
لا شك أن هذه المضامين موجودة مسلمة من مسلمات الإيمان
بالله واليوم الآخر، وعودة إلى مضامين مقررات هذا الإيمان، ولكن ربما الإشكال يكون
في فكرة "الإسلامية الثانية" والفصل بينها وبين "الإسلامية الأولى"،
لا سيما والإسلام كان ولا يزال ومن البداية خطابه عالمي، ومقرراته واحدة وليس
أكثر، مما جعل البعض يسيء الظن بالأستاذ أبو القاسم حاج حمد، حتى أن بعضهم شبه
كتابه "الاسلامية العالمية الثانية" بالكتاب الأخضر للرئيس الليبي معمر
القذافي الذي ادعى فيه الطريق الثالث، وآخرون شبهوه بمشروع محمود محمد طه [1909 -
1985] المسمى "رسالة الإسلام الثانية"، الذي أعدم بسببه في حكومة البشير
وحسن الترابي، إثر حكم صدر في حقه بالردة ونفذ.
والواقع أن مشروع حاج حمد لا علاقة له بهذا أو ذاك، كما
أنه ليس محاولة توفيقية بين الإسلام والخاطابات الغالبة في العالم مثلما فعل
البعض، وإنما وضع كتابه الثاني "منهجية القرآن المعرفية" وقد أعجب
بطروحاته الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني رئيس المعهد العالي للفكر الإسلامي،
وتبنى كتابه هذا، باعتباه من صميم "أسلمة المعرفة" الذي يشتغل عليه
المعهد قبل ذلك.
فرد الرجل على تلك الادعاءات، وزاد من التوضيح ما ينفي
عنه تلك التهم؛ لأنه قام بعرض المسألة المعرفية كما تناولها القرآن، بما يغطي حاجة
الإنسان المعاصر، وتجاوز الطروحات الوضعية مع الإشارة إلى مصادرها القديمة
والجديدة.
أما بالنسبة لعالمية الرسالة الإسلامية، فهو لم يقل إنها
لم تكن كذلك، وإنما نبه إلى أن الفرق بين المرحلة الأولى والثانية هو الواقع الذي
يعالجه الخطاب، فالجديد ليس القرآن والخطاب القرآني، وإنما الجديد هو الإضافات
التي جاء بها القرن العشرين خاصة، وعجزت المدارس الغربية الحداثية التي نشأت في ظل
هذا الواقع، بينما القرآن قد تجاوز تلك الطروحات الوضعية إلى الآفاق الكبرى التي
تطمح إليها الإنسانية بطبيعتها الفطرية (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ) [الصف 9]؛ لأن الله الذي خلق الخلق وأنزل الكتاب، أراد لهذا
الكتاب أن يهيمن على الوجود كله (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ
فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا
جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ
فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة 48].
للرجل أراء في بعض المسائل الجزئية في مسائل فقهية
وتفسيره لبعض الآيات، وموقفه من بعض الأحاديث، لأهل الاختصاص فيها أراء ومواقف
مخالفة له، لا نلتفت إليها؛ لأنها لا تؤخذ منه أصلا بوصفه ليس من أهل الاختصاص،
ولا أراها تقوى على منعنا من دراسة طروحاته القوية، فهي مؤسسة قرآنيا ومعرفيا،
وقادرة على مقارعة المدارس الفكرية كلها، يسارا ويمينا ولاهوتا وفلسفة وفكرا عاما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.