عن جعفر بن "رشيدٍ" أطيب الخبر
الكاتب: د. محمد أعظم الندوي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
كانت
مُساءلَةُ الرُّكبانِ تُخبرُنَا ** عن جعفر بن فلاح أطيبَ الخبرِ
ثمّ
التقينا فلا واللّهِ ما سمعتْ ** أُذني بأحسنَ ممّا قد رأى بصري
بهذه
الأبيات الخالدة وصف ابن هانئ الأندلسي رجلًا من أعلام زمانه، ولا أجد أبلغ منها
تعبيرًا عن علاقتي بالأستاذ الفقيد الشيخ جعفر مسعود بن واضح بن رشيد الحسني
الندوي، رحمه الله، فما عرفته عن كتب ولا عن كثب، حتى إذا التقيت به إبّان طلبي في
مدرسة ضياء العلوم بمدينة رائي بريلي في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم، أدركت
أن الشيخ كان أعظم مما سمعت عنه، وأن هذا الرجل الذي تحدث عنه الركبان كان في
الحقيقة أرفع مما ذكر فيه.
كيف يُرثى عالمٌ كان امتدادًا لجيلٍ من العظماء،
يحمل في روحه عبير تراثهم، وفي عقله قبسًا من نورهم؟ الشيخ جعفر مسعود بن واضح
رشيد الحسني الندوي، رحمه الله، لم يكن مجرد عالمٍ عادي، بل كان صفحةً من صفحات
المجد، تُطوى اليوم ليبقى أثرها خالدًا في تاريخ أسرة السادات الحسنية القطبية
التي وصفها أحد أعلامها العلامة عبد الحي الحسني بآل هاشم، فقد كوّن هيئة باسم
"جمعية آل هاشم" العائلية لإصلاح ذات البين بين عشيرته، وإخراجهم من
نطاق الخلافات الصغيرة إلى الأهداف المشتركة العالية في أواخر القرن التاسع عشر
الميلادي.
ولد
الشيخ جعفر في أواخر الستينيات، وقد استهلّ في بيتٍ تتنفس فيه الجدران علمًا
وتقوى، كان والده، الشيخ محمد واضح رشيد الحسني، أحد أعلام ندوة العلماء، وعمّه
وأبو حرمته، الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، رئيسها السابق، وكان الشيخان شقيقين
متحابّين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا نادراً، وكأنهما كقلبين ينبضان بمشاعر
واحدة، وعينين في وجهٍ واحد، يرى بهما الجمال والخير، ويساند أحدهما الآخر في
السرّاء والضرّاء، وكأنهما كالكتاب المفتوح، يقرأ أحدهما صفحات الآخر بلا حروف،
يقف الزمن إجلالًا لمكانتهما السامية في الأعين والقلوب، أما جدّ الشيخ جعفر وخال أبيه وأستاذه ومربيه،
فهو العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي، إمام الدعوة والفكر، ذلك الجبل
الشامخ الذي لا يُذكر العلم إلا وذكراه في أعلاه.
نشأ
الشيخ جعفر في هذا البيت الذي اجتمعت فيه أنوار العلم وأصالة الدعوة، حفظ القرآن
الكريم صغيرًا، وكأن حروفه نسجت خيوطًا من النور في قلبه، وقد صليت ركعات التراويح
مؤتمًّا بجعفر الإمام في مسجد "دائرة الشاه علم الله"، وكان يتلو كتاب
الله بصوت شجيّ ورخيم، يلامس القلوب ويأسر الأرواح.
درس
في دار العلوم التابعة لندوة العلماء، حيث أتم شهادة العالمية عام 1981م، والفضيلة
عام 1983م، لكنه لم يكن ممن يقتنع في العلم باليسير ويستغني في الخير عن الكثير،
فواصل مسيرته ليحصل على درجة الماجستير في اللغة العربية من جامعة لكناؤ عام
1986م، ثم شارك في دورة تدريبية بجامعة الملك سعود، الرياض عام 1990م، ليُضيف إلى
علمه بُعدًا عصريًا ومهاراتٍ ناعمةً عززت قدرته على التواصل وحلّ المشكلات، واتخاذ
القرارات، مما أثر إيجابيًا على رحلته العلمية والعملية.
كان
الشيخ جعفر، كما قالت العرب "كالمزن حيثما سار نفع"، بدأ حياته العملية
كمدرس للحديث النبوي والأدب العربي في المدرسة العالية العرفانية التابعة لندوة
العلماء، حيث كان يزرع في طلابه حبّ العلم والتفوق، ويزوّدهم بالعلم والأدب
والتربية الإسلامية سنين طوالًا من حياته، ثم تولى رئاسة تحرير صحيفة
"الرائد" عام 2019م، فقادها بخبرة وحكمة إلى آفاق جديدة برفقة من نخبة
من أساتذة دار العلوم ندوة العلماء، الشباب الكتّاب المبدعين، حيث ظلّت صفحاتها
منبرًا للفكر الأصيل وقضايا الأمة الملحّة، وسيلة لتربية النشء الجديد على كتابة
اللغة العربية الفصحى، مزج فيها بين عمق الطرح وروعة الأسلوب، لتبقى
"الرائد" كدأبها نموذجًا رائدًا للصحافة الإسلامية الرصينة.
وفي
عام 2023م، شغل منصب الأمين العام لندوة العلماء والمجمع الإسلامي العلمي التابع
لندوة العلماء، فكان حضورُه إضافةً نوعية للندوة، عمل جنبًا إلى جنب مع فضيلة
الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي، رئيس ندوة العلماء، لتطوير مسيرتها العلمية
والفكرية، معززًا دورها في خدمة العلم والدعوة بروح متجددة ورؤية واضحة.
كما
تقلد منصب رئيس مكتب رابطة الأدب الإسلامي العالمية في شبه القارة الهندية، حيث
سعى إلى إبراز القيم الإسلامية من خلال الأدب، جاعلًا منه وسيلةً للتعبير عن
المبادئ السامية، دون أن يتخلى عن عمق الرؤية وجمال الأداء في كل موقع شغله، أثبت
كفاءةً قيادية وحرصًا على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، مما
جعله شخصية محورية في ميادين العلم والفكر والأدب.
بدأ
مسيرته الأدبية بالكتابة للأطفال، حيث صاغ حكايات بسيطة تحمل في طياتها معاني
عميقة، تخاطب عقولهم الصغيرة ببراءة ووداعة، ثم انتقل إلى الكتابة للكبار، فكانت
كلماته أكثر عمقًا واتزانًا، تعالج قضايا الفكر والواقع بأسلوب يزاوج بين البيان
والبديهة. ومع مرور الوقت، تدرّج في مسيرته حتى تولى كتابة افتتاحيات
"الرائد"، فأتقن فنّ الخطاب الصحفي بأسلوبٍ مختلف، يجمع بين الحكمة
والرصانة.
في كل
مرحلة، كان أديبًا أريبًا، يختار كلماته بعناية، ويضعها في مواضعها كالجواهر،
ولبيبًا يعرف كيف يخاطب كل فئة بما يناسبها، ليبقى أدبه حيًا نابضًا في قلوب
قرّائه على اختلاف أعمارهم واهتماماتهم.
أما
في مجال الترجمة، فقد أبدع الشيخ في نقل النصوص من الأردية إلى العربية، محافظًا
على روحها ومضمونها، مع إضفاء لمسة أدبية تبرز جمال المعاني، من أبرز أعماله
المترجمة: "في مسيرة الحياة"، ترجمة لكتاب "کاروان زندگی"
السيرة الذاتية للشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي، و"الشيخ محمد يوسف
الكاندهلوي: حياته ومنهجه في الدعوة" للشيخ محمد الثاني الحسني،
و"الإمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي ومآثره العلمية" للشيخ أبي الحسن
الندوي، جاءت هذه الترجمات بأسلوب متين ودقيق، يظهر فهمه العميق للنصوص وروحه
العلمية المخلصة.
لم
يخطر في البال أن يأتي يوم بهذه السرعة نخطّ فيه كلمات العزاء لرجل كان حيًا
بيننا، كأنه شعلة مضيئة لا تنطفئ، لقيناه في جي فور في شهر نوفمبر الماضي، ثم في
نفس الشهر في الندوة الفقهية بندوة العلماء لكناؤ، وقد تكلمت معه في إعادة طبع
نسخة إنجليزية من تفسير الشيخ عبد الماجد الدريابادي بحلّة قشيبة معاصرة، إذا إننا
في تخطيط لذلك مع بعض زملائنا ومعارفنا المثقفين من مدينة حيدرآباد، فوافقني على
ذلك، وقبل ذلك بكثير، كنت أودّ أن أستكتب مقدمة كتابي حول الدكتور محمد أكرم
الندوي الذي أكملته كأطروحة للماجستير في الفلسفة من القسم العربي بجامعة مولانا
آزاد الأردية الوطنية، بواسطة أخي النبيل أمين بن جعفر الحسني، فكتب الشيخ مقدمة
قوية، ولكن للأسف لم يوفق لي ترتيب تلك الأطروحة ككتاب، ولم تر النور بعد.
كان
الأستاذ جعفر طيب المعشر، رقيق المشاعر، متناسق البنية، رشيق القوام، عذب اللسان،
صادق اللهجة، نقي السريرة، وقور الخطى، كثير العطاء، شعاعًا هادئًا يلامس القلوب
بلطف ويترك أثرًا لا يمحى من الذاكرة.
لكن
الموت لا يُمهل، وفي لحظة كلمح البصر أو هو أقرب، وفي حادث سير مروّع انتقل إلى
رحمة الله تعالى، صدمته سيارة مسرعة يقودها سائق ثمل نشوان، وشابّ طائش أهوج، كان
رحيله أشبه باقتلاع شجرةٍ وارفة الظلال، لا يُدرك الناس قيمة ظلّها إلا حين تغيب
عنهم.
ومع
عظم الفاجعة، وفداحة المصاب، نؤمن بحكمة الله في أقداره، ولعل هذا الرحيل شهادةً
اصطفاه الله لها، كما قال سبحانه: "وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ".
لا ندري أين تكمن المصلحة، لكننا نوقن أن الله أكرمه بما لا نعلم، ورفعه إلى منزلة
لا يصل إليها إلا من اصطفاهم برحمته وفضله، ليبقى ذكره حيًا وأثره خالدًا في
القلوب:
كَأَنَّ
عَيني لِذِكراهُ إِذا خَطَرَت ** فيضٌ يَسيلُ عَلى الخَدَّينِ مِدرارُ
برحيله،
فقدت الأسرة الحسنية ركناً شامخاً، والعائلة الندوية علماً راسخاً، وندوة العلماء
رمزاً فكرياً، والأمة نجمًا أضاء دروبها، جمع بين إرث الأسرة، وعمق العائلة، وفكر
الندوة، تاركاً فراغاً لا يُسدّ وأثراً لا يُنسى.
بقلبٍ
يعتصره الألم، ودموعٍ لا تنفكّ تسيل، نتقدم بأصدق التعازي إلى أبناء الفقيد
الغالي، إخوتي الأصفياء خليل، وأمين، وعبد الحي الحسنيين الندويين، وغيرهم من
أعضاء الأسرة الحسنية الكريمة، وعلى رأسهم قدوتي وأستاذي فضيلة الشيخ بلال عبد
الحي الحسني الندوي، نعزّي كل من عرفه وأحبّه، ونعزي الأمة التي فقدت رجلًا لا
يُعوّض بسهولة:
في
ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ ** أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قد
يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا
** عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ
فُقِدوا
نسأل
الله أن يغفر له، ويرفع درجته في عليين، ويجعل قبره روضةً من رياض الجنة، ويلهمنا
الصبر على غيابه.
وما
فقدَ الماضونَ مثلَ محمّدٍ ** ولا مِثلُهُ حتى القيامةِ يُفقدُ
إنا لله وإنا إليه راجعون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة:
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد
العالمي لعلماء المسلمين.