البحث

التفاصيل

الإنسان أساس المعادلة الاقتصادية في فكر مالك بن نبي

الرابط المختصر :

الإنسان أساس المعادلة الاقتصادية في فكر مالك بن نبي[1]

الكاتب: أ.د. محمد دمان ذبيح

 

لم يكن مالك بن نبي من علماء الاقتصاد، بل كان من أبرز المفكرين في المجال الحضاري بأبعاده المختلفة، غير أن الرجل له بعض الإسهامات الاقتصادية المتعلقة بهذا المجال الهام، والتي نجدها في العديد من دراساته خاصة كتابه القيم: "المسلم في عالم الاقتصاد".

      ولعل من أهم الأفكار الاقتصادية البنّابية ما يتعلق بموضوع صناعة وبناء الإنسان، ولا شك بأن هذا الموضوع يعتبر من أكبر التحديات التي يُمكن أن تواجه عملية التطوّر، لذلك فقد أكد مالك بن نبي في الكثير من الأحيان أن الحضارة لن تقوم إلا على الإنسان الذي يملك زمام المبادرة، وقيادة حركة البناء، وبالتالي فالعالم الإسلامي مطالب بضرورة الاسـتثمار فـي المـوارد البشرية، لأنه مهما استورد العالم الإسلامي من التكنولوجيا الغربية فإن هذا لن يحقق النهضة مالم يتم تأهيل الإنسان أولا.

      وبالنظر للتجارب الإصلاحية والتنموية لبعض الدول الرائدة قديما وحديثا كاليابان وألمانيا وسنغافورة وتركيا وماليزيا وباقي دول العالم المتقدم، نجد أن بينهم قاسما مشتركا في منطلقاتهم المنهجية نحو الإقلاع الحضاري والاقتصادي، يتمثل في أولوية بناء الإنسان قبل العمران، إذ أن رسم السياسات الإصلاحية، والتأسيس لمشروع مجتمع جدير بتحقيق القفزة التنموية والمعراج الحضاري، يتطلب تأهيل الإنسان إلى مَصَفِّ الوعي، والفعل الحضاري الذي يجعله في مستوى التطلعات التنموية أداء وثقافة وتفكيرا.[2]

       إن جل المشاريع الإصلاحية في بلادنا العربية لم تنطلق من المقدمة الصحيحة، فلم تجعل الإنسان محور تنميتها ومنطلقها نحو الارتقاء في مدارج التطور والبناء، بتنمية التعليم ، وتطوير مقارباته، والاستثمار في مخرجاته، فجل مشاريعنا تستند إلى الأرقام ومقدار المخصصات المالية، وعدد المؤسسات والتجهيزات، دون وجود أدنى استراتيجية لتنمية رأس المال الفكري والبشري الذي يمثل الروح التي تبعث الحياة والفاعلية في تلك المشاريع، ويؤكد مالك بن نبي رحمه الله هذه الحقيقة بقوله: "إن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هي الإنسان، فالاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصنع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد إنسان وتعبئة الطاقات الاجتماعية في مشروع تحركه إرادة حضارية.[3]

         وتعتبر التجربة الصينية والتجربة الألمانية من أهم التجارب التي تحدث عنها مالك بن نبي في هذا السياق حيث يقول: “إن الصين تقدمت اقتصاديا بسرعة مرموقة لأنها طبقت منذ اللحظة الأولى في خطط تنميتها مبدأ الاتكال على الذات، أي بالتعبير الاقتصادي مبدأ الاستثمار الاجتماعي من الإنسان الصيني، التراب الصيني، والزمن المتوفر في كل أرض.. فالصين وضعت تبعيات التنمية على كاهل الشعب، فعوضت بطاقاته الحيوية الموجودة بقدر الإمكان الطاقاتِ الميكانيكية المفقودة.. مما جعلها تحصل على خبرة فريدة في مجال توظيف الإنسان والتراب والزمان".[4]

        أما عن التجربة الألمانية فقد قال: "إن ألمانيا بعدما تعطلت تماما سفينتها في نهاية الحرب العالمية الثانية أقلعت بمقدار خمسة وأربعين ماركا فقط، لكن الاستثمار الحقيقي كان في رأس كل مواطن ألماني وفي عضلاته، وبصورة أشمل وأدق كان في تصميم الشعب الألماني وفي التراب الألماني على الرغم من فقره".[5]

      لذلك ومن أجل توضيح ما سبق أكثر فقد صاغ مالك بن نبي العوامل التي تشكل الحضارة بالمعادلة التالية: ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت.

       غير أن هذه المعادلة لا تعطي ثمارها إلا بمفاعل، أو مركب يـدمج هـذه العناصـر، ويعطيها غاية، وهذا المفاعل هو الدين، أو ما أسماه الفكرة الدينية أو العنصر الأخلاقـي، وسواء كان هذا الدين سماويا حقا كالإسلام، أو عقيدة ومبدأ يبلغ عند أصحابه مبلغ الدين.[6]

        والنهضة أو الحضارة من خلال هذه المعادلة رهن بمدى فاعلية الإنسان وحركته من أجل إنجازها، وليست المادة وحدها العاملة على التغيير، بل التركيبة الثلاثية بقيادة الإنسان.[7]

        فالإنسان هو محور التغيير وأداته، ويجب بناء الإنسان الجديد القوي بمعرفتـه لذاتـه ولغيره، والمدرك لدوره، والمؤمن بأهمية رسالته في هذه الحياة، والذي سيرتقي حتما بمجتمعه من مجرد الوجود إلى قمة الشهود.

       و يجب على هذا الإنسان الجديد في الوقت نفسه التعرف على ذاته من دون نكران لها ولا تمجيد، وإنما بعقلانية الممحص والناقد الموضوعي، والتعرف على الآخر من دون عقـدة رفـض ولا انبهار، وإنما بمعرفة موضوعية تُظهر حقيقة الآخر بإيجابياته وسلبياته، ليجد بذلك مكانـه المناسب في خريطة التطور الحضاري للمجتمعات والأمم، وبعدها يسعى لتعريف الآخـر بنفسه، من خلال البحث عن آليات التواصل معه من جهة، ومحاولـة معرفـة حاجـات الإنسانية لغرض خدمتها.[8]

       كما أن هذا الفرد وبصفته عاملا أوليا وأساسيا للحضارة له قيمتان الأولى طبيعية والأخـرى اجتماعيـة:

- فالقيمة الأولى موجودة في كل فرد من الأفراد، في تكوينـه البيولـوجي، وتتمثـل فـي استعداده الفطري لاستعمال فطريته وترابه ووقته.

- وأما القيمة الثانية وهي القيمة الصناعية فإنه يكتسبها من وسطه الاجتماعي، وتتمثـل في الوسائل والمسيرات التي يجدها في إطاره الاجتماعي لترقية شخصيته، وتنمية مواهبه وتهذيبها، وتتمثل وظيفة الهيئة الاجتماعية في هذه الترقية أو التنمية، فإنها تصنع للإنسان ما يمده في رفع مستواه من مدرسة أو مستشفى، ومن إدارة تسهر على رعاية مصالحه، ..إلخ.[9]

      ومن هنا وتأسيسا على ما سبق يمكن القول:

- إن أعمال بن نبي الفكرية تعكس حرص الرجل على ضرورة الاهتمام بالإنسان وتأسيس فلسفة خاصة به تدرسه وترشده وتوجهه نحو الأفضل، عن طريقها نعرف الأمراض التي تصيبه في مسيرته الحضارية، وبالتالي يمكن على غرارها أن نخطط وفق الاستشراف الذي أصبح علما هاما في العالم.[10]

- يعتبر الإنسان الركيزة الأساسية للتنمية، وعصب الاقتصاد في أي بلد في العالم، والثروة البشرية أهم مخزون يمكن الاعتماد عليه في النهضة والتنمية الشاملة والمستدامة، في شتى مجالات الحياة.

- وللاستفادة من الكم البشري، وتوظيف طاقاته بالشكل الأمثل لابد من العمل على تنمية قدراته، وتوسيع محاضن التعليم، وتعزيز التعليم النوعي، والاهتمام بالشباب، وهذا من مسؤوليات الحكومة التي يجب أن تكون لها خططا وبرامج مختلفة لتحقيق هذه الأهداف السامية.[11]

 - إن الإنسان هو محور التغيير والنهضة لكل مجتمع من المجتمعات.

- يمثل هذا الإنسان الاستثمار الحقيقي الذي يجب أن نحرص عليه قبل أي شيء آخر.

 - إن هذا الاستثمار، أو هذا الإنسان الجديد يعبر وبلا شك عن وظيفة الاستخلاف التي يتميز بها الانسان عن غيره من المخلوقات قال تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:30].

- الإنسان الأنموذج أو الفعال هو ذلك الإنسان الذي تتجسد فيه القيم العلمية والأخلاقية، والتي يجب أن ينشأ عليها، وتغرس فيه منذ طفولته ليكون رسالياً وحضارياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

-  على الدول العربية والإسلامية أن تأخذ بهذا العامل الحضاري الهام في حياة الفرد والمجتمع، والذي يجسد سنة كونية لا تعرف تبديلا ولا تحويلا عنوانها ﴿إنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد : 11].

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* البروفيسور محمد دمان ذبيح؛ كلية العلوم الاقتصادية والعلوم التجارية وعلوم التسيير، جامعة محمد العربي بن مهيدي أم البواقي – الجزائر-. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* المصادر والمراجع

**القرآن الكريم

  -  الطيب برغوث، موقع المسألة الثقافية من إستراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، الجزائر، دار الينابيع للطباعة والنشر، ط01، 1993م. 

   -  حرزالله محمد لخضر، مالك بن نبي يحدثكم: هكذا يمكنكم صناعة حضارة، تاريخ التصفح: 05/02/2025، https://www.aljazeera.net/blogs .

- حسن موسى محمد العقبي، مالك بن نبي وموقفه من القضايا الفكرية المعاصرة، رسالة ماجستير في العقيدة والمذاهب المعاصرة، الجامعة الإسلامية، غزة، 2005م.

- عبد القادر حوة، شروط بناء الحضارة وأطوارها في فكر "مالك بن نبي"، مجلة مقاربات، جامعة زيان عاشور، الجلفة، الجزائر، م01، ع03.

 -  مالك بن نبي، المسلم في عالم الاقتصاد، دمشق، سوريا، دار الفكر.     

- مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 1986.

- مالك بن نبي، مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، دمشق، سوريا، دار الفكر، ط01، 1978م.

  - محمد العبدة، مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي، تاريخ التصفخ 10/02/2025م ،www.islamtoday.net

- محمد علي شعلان، الإنسان.. أساس الاقتصاد، تاريخ التصفح 08/02/2025م، https://alarshnews.net

 



[1] - يُعد المفكر الجزائري مالك بن نبي ( 1905/ 1973) أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين ويُمكن اعتباره امتدَادا لابن خلدون، ويعد من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة، له العديد من المؤلفات منها :المسلم في عالم الاقتصاد، شروط النهضة، بين الرشاد والتيه، مشكلة الثقافة وغيرها..

[2] -  حرزالله محمد لخضر ، مالك بن نبي يحدثكم: هكذا يمكنكم صناعة حضارة، تاريخ التصفح : 05/02/2025، https://www.aljazeera.net/blogs

[3] -  مالك بن نبي ، المسلم في عالم الاقتصاد ،  دمشق ، سوريا ،  دار الفكر ، 2000م، ص : 59.

[4]- المرجع السابق، ص: 76.

[5] - مالك بن نبي ، مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، دمشق ، سوريا ،  دار الفكر، ط01، 1978م، ص : 172.

[6] - محمد العبدة، مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي، تاريخ التصفخ 10/02/2025م ،www.islamtoday.net

[7]- حسن موسى محمد العقبي، مالك بن نبي وموقفه من القضايا الفكرية المعاصرة، رسالة ماجستير في العقيدة والمذاهب المعاصرة، الجامعة الإسلامية، غزة، 2005م، ص : 185.

[8] - عبد القادر حوة، شروط بناء الحضارة وأطوارها في فكر "مالك بن نبي"، مجلة مقاربات ،جامعة زيان عاشور ، الجلفة ، الجزائر، م01، ع03،

ص : 161.

[9] - مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، ، 1986م، ص : 145 وما بعدها.

[10] -  الطيب برغوث ، موقع المسألة الثقافية من إستراتيجية التجديد الحضاري عند مالك بن نبي، الجزائر، دار الينابيع للطباعة والنشر، ط01، 1993م،  ص : 10.

[11] -  محمد علي شعلان ، الإنسان.. أساس الاقتصاد، تاريخ التصفح 08/02/2025م، https://alarshnews.net/


: الأوسمة


المرفقات

التالي
رمضان: فن استثمار الوقت واغتنام الفرص
السابق
السعادة قرار أم شعور؟

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع