البحث

التفاصيل

الستر ودوره الفعال في معالجة عيوب الأفراد والمجتمعات، وإطفاء نار الفساد

الرابط المختصر :

الستر ودوره الفعال في معالجة عيوب الأفراد والمجتمعات، وإطفاء نار الفساد

بقلم: بن سالم باهشام

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وعلى من اتبعه إلى يوم الدين.

الأفراد والمجتمعات بين التوبيخ والتشهير والستر والثناء

من الاعتقادات والتصورات الخاطئة: أن بالتوبيخ والتشهير، يمكن أن نصلح الأفراد، ونصلح المجتمع، ولكن العكس هو الصحيح، إذ التوبيخ لا يزيد الفرد إلا نفورا وإعراضا، بل وإصرارا على الباطل والسلوك السيء، في حين؛ أن المدح والثناء على الشخص يغير حال الفرد، بل حال حتى المجتمع.

قصة للعبرة

 هذا نموذج على صحة ما نقول، امرأة منخرطة في جمعية نسوية، وفي إطار السعي لتحسين العلاقات الزوجية بين الأزواج، طلبت الجمعية من كل المنخرطات بأن يتوجهن إلى أزواجهن قصد كتابة عيوب الزوجة ووضعها في ظرف مغلق، لتعرض عيوب كل امرأة على المتخصصين في علم النفس قصد معالجتها، ولما أخبرت امرأة من المنخرطات زوجها بالخبر، قام توا وكتب الرسالة، ووضعها في ظرف، إلا أنه لم يغلقه، بل سلمه مفتوحا لزوجته التي تتوجس خيفة مما سيكتبه زوجها على العيوب التي فيها، وفي الغد؛ يفاجأ الزوج بزوجته تستقبله بباب المنزل، وبيدها باقة من الورود، ودمعة الفرح على خديها، فلما رأته، عانقته وشكرته، لقد اطلعت المرأة على الورقة التي كتب زوجها قبل تسليمها للجمعية - من باب حب الاستطلاع - وبعدها سلمتها إلى المسؤولة في الجمعية في ظرف مغلق وبكل افتخار واعتزاز، بسبب ما كتبه زوجها عنها في الرسالة، لقد كتب الزوج: (ليس في زوجتي أي عيب يذكر، وأنا راض بكل تصرفات زوجتي ومعاملاتها، وأنا أحبها كما هي).

لم ينظر هذا الزوج إلى مجموع أخلاق زوجته وتصرفاتها، بما في ذلك الجوانب الإيجابية  والسلبية، وغض الطرف عن السلبية لقلتها، بل نفى العيب عنها بالكلية أمام الناس، بل حتى معها بنفسها، وكان أثر هذا التصرف من خلال تصريح الزوج، أن زوجته تغيرت 180 درجة إلى الأحسن، وفي وقت وجيز، فقد تحسنت أخلاقها ومعاملاتها مع زوجها وأبنائها، وحتى مع محيطها، لتحافظ على الصورة التي وصفها بها زوجها للجمعية، ويزيد الزوج قائلا: وأنا أعلم في زوجتي بعد المعاشرة الطويلة معها؛ ستة عيوب لم أصارحها بها، فضلا عن غيرها، وقد تخلت عنها كلها، وفي وقت وجيز بسبب هذا التصرف الحكيم الذي هو المدح والثناء، بدل اللوم والتوبيخ والتشهير.

التعرف على حقيقة النفس ونفوس الغير من أهم دواعي الإصلاح

إن على كل واحد منا أن يكون على علم بحقيقة نفسه ونفوس غيره، ليسهل التعامل معهم، لهذا فإن أصعب شيء يحتاج إلى الاهتمام به، وإيلائه كل العناية والجهد، هو نفس الإنسان، ونفوس الآخرين، لهذا يجب على كل واحد منا أن يشتغل بنفسه عن أنفس الناس، بل يجب عليه أن يكون على علم بكيفية التعامل معها، حتى لا يهلكها بإهمالها بدل مجاهدتها قصد تزكيتها، وأن يكون كل واحد منا على علم بكيفية التعامل مع نفوس الآخرين، ليرتقي بهم إلى الدرجات العلى في الدنيا، بدل كسرهم بالتوبيخ والتشهير بدعوى الإصلاح، ويكون بذلك إفساده أفظع من محاولة إصلاحه؛ نتيجة جهله بطبيعة النفوس البشرية، وهذه مهمة لا يقدر عليها إلا من سلك الطريق، وكانت رغبته في الإصلاح لا التشهير، وفي الستر لا نشر الفاحشة في المؤمنين، يقول تعالى في سورة النور: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].

الستر علاج والتشهير دليل على فساد القلوب

كم من فرد صلحت أخلاقه بالستر عليه، وتوجيهه بالحكمة، وكم من مجتمع صلح أمره بالستر، لهذا فالستر علاج اجتماعي تختفي تحته أمراض المجتمع ويطفئ نار الفساد.

ومن أعظم الأدلة على معرفة سلامة القلب، الاشتغال بإصلاح النفس من العيوب، وتطهيرها من الذنوب، وردعها عن غيها، وقمعها عن شهواتها، وترويضها على الحق، ولزوم الصراط المستقيم، قال تعالى في سورة النازعات: ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41]، والإنسان بطبعه كثير العيوب، ومن اشتغل بإصلاح عيوب نفسه عن عيوب غيره، أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، وكلما اطلع الإنسان على عيب في نفسه، هان عليه أن يرى مثله في أخيه، وانتقل من السبابة إلى الإبهام، فبدل أن يشير بسبابته إلى الآخرين، أشار بإبهامه إلى نفسه، أما من اشتغل بعيوب غيره عن عيوب نفسه، عمى قلبه، وتعب بدنه، والمجتمع الذي يغلب عليه الستر والطهر، لا يكون فيه من الأخبار إلا ما كان طاهرا وعفيفا، ومن وقع في معصية وأسرّها، يبقى مستورا، ويستر الله عليه، إلى أن يتوب، كما يستره من رآه من المؤمنين لئلا يتجاسر على الجهر بها أو الإصرار عليها، وقد استنكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث على العاصي الفاضح لنفسه والكاشف لستر الله عنه، روى البخاري في صحيحه، أن أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الإِجْهَارِ، أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ فِي اللَّيْلِ عَمَلاً؛ ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ فَيَقُولُ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، يَبِيتُ فِي سِتْرِ رَبِّهِ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ). [ رواه البخاري (4/ 104)، (78) كتاب الأدب، (60) باب ستر المؤمن على نفسه، من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبي هريرة به، رقم (6069)].

الستر عن العاصي إحياء له ولمجتمعه

إن الله تعالى أمرنا بأن لا نفضح العاصي الذي لم يألف المعصية، واعتبر الستر عن العاصي حياة له، ومساعدة له في إصلاح نفسه، وإصلاح المجتمع، فكيف يعتبر الستر حياة للمستور؟

روى أحمد، وأبو داود، والنسائي، عن صفوان بن يَعْلَى، عن أبيه ... أن الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ...) [أخرجه أحمد (4/224، رقم 17999)، وأبو داود (4/39، رقم 4012)، والنسائي (1/200، رقم 406)، والبيهقي (1/198، رقم 908)]. وقرن عليه الصلاة والسلام بين هذين الخلقين: الحياء والستر، لأن الإنسان الذي ينشر عيوب إخوانه لا يقدم على ذلك إلا بعد ان يهتك كل حجب الحياء الذي يمكن ان تردعه، ولا يستر تلك العيوب؛ إلا صاحب الحياء، والستر حياة للمستور الذي يتعامل مع الناس دون أن تشير إليه الأصابع أو تنهشه النظرات، أو تقتله عقدة الذنب والفضيحة، وربما كان هذا بعض ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه الطبراني في معجمه الكبير، عن عقبة بن عامر قال: أخبرنا أبو حماد، قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  (من وجد مسلما على عورة فسترها، فكأنما أحيى موؤودة من قبرها) [الطبراني في معجمه الكبير ج17/ص313 ح864]، ووجه الشبه بين الستر عن العاصي وإحياء بنت دفنت حية، أن الساتر دفع عن المستور الفضيحة بين الناس، والتي هي كالموت، فكأنه أحياه حين ستره.

شهر أبريل واليوم العالمي للتدقيق

لقد هجر الكثير من المسلمين سنة الستر عن العاصي، بحيث إن مجرد نظرة إلى واقعنا اليوم، تجعل الإنسان يرى انصرافا وإعراضا من الكثير من الناس عن الهدي النبوي الذي هو الستر على أهل الذنوب والمعاصي، بل تجد أناسا لا هم لهم إلا تصيد العثرات، والبحث عن العيوب والزلات، فيتهمون الأبرياء بسوء الظن، ويشيعون الأخبار بلا بينة، ويفترون الكذب على البريء، ويفضحون المذنب المتستر، ويشوهون صورة الفضلاء بإبراز أخطائهم وعثراتهم أمام الناس، وقد ازداد الطين بلة عندما وظفت الوسائل الإعلامية، سواء الرسمية منها او الشخصية لهذه الأغراض الدنيئة، إما لغرض التشهير، أو لغرض الحصول على المال الحرام بهذا التشهير، وهذا ينافي مبادئ تدقيق المعلومات، والتي يعيش العالم، اليوم العالمي لتدقيق المعلومات، والذي تم الاتفاق على أن يكون في 2 أبريل من كل سنة، كما ينافي الحياء والستر الذي يحبه الله ورسوله  صلى الله عليه وسلم.

مواصفات المؤمن العاقل والجاهل

إن المؤمن العاقل، إنما يحسن الظن بإخوانه، ويشتغل بمشاكله وذنوبه، ويحرص على سمعة مجتمعه الطيبة، ويتذكر أن التحقق من صحة الأخبار قبل تصديقها أو مشاركتها ضرورة شرعية وإنسانية، في عالم مليء بالمعلومات، أما الجاهل، فتراه يستلذ ويرتاح لسماع عيوب إخوانه، ومجتمعه، سواء كانت حقا أو افتراء وكذبا، ويأتي بها، ويروجها على أو سع نطاق، وهذا يدل على ضعف إيمانه، وعلامة على مرض قلبه.

فاللهم ارزقنا الحياء والستر عن المذنبين غير المجاهرين بذنوبهم، وأصلح أحوالنا ظاهرها وباطنها، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله عدد ما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون إلى يوم الدين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
الدكتور رأفت الميقاتي يرد على الشبهات النسوية حول مكانة المرأة في الإسلام
السابق
(تأملات في سورة العلق) بين قراءتين

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع