غزة بين.. سلطان
العلماء وعلماء السلطان
(رسالة
عاجلة)
كتب: أ د/
محمد دمان ذبيح
الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد.
يا علماء الأمة، ويا دعاة الإسلام، إن
المسؤولية أعظم، وإن الأمانة أكبر، وإن الخطب جلل، وإن كنتم في ريب مما أقول
فاقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ
يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا
بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ
وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ﴾ [البقرة: 159]، واقرأوا أيضا : ﴿إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: 174].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "هذا
وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة،
والهدى النافع للقلوب، من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه، التي أنزلها على
رسله. "
وبالتالي فالواجب على أهل العلم أن
يُبينوا للأمة الحق وييبلغوه، وهذه هي وظيفتهم الكبرى، وإن لم يفعلوا ذلك فسيتعدى
ضرر هذا التقصير، أو هذه الخيانة إلى الناس جميعا، بل إلى غير الناس فيلعنهم الجميع،
بما في ذلك البهائم، ودواب الأرض، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من
سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة".
ولله در ابن القيم رحمة الله تعالى عليه
الذي ألف كتابا، وجعل له عنوانا تقشعر له الأبدان، ويكفي أن يكون هذا العنوان
رسالة إلى علماء الأمة ودعاتها "إعلام الموقعين عن رب العالمين"؛
حيث جعل العلماء بمثابة الموقعين عن الله عز شأنه، وقد قال في هذا الكتاب: "ولما كان
التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ
بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق; فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه،
ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر
والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله; وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي
لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع
عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له
أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق
والصدع به ; فإن الله ناصره وهاديه، وكيف هو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب
فقال تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في
الكتاب} وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة: إذ يقول في كتابه: {يستفتونك
قل الله يفتيكم في الكلالة}، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول
غدا وموقوف بين يدي الله عز وجل."
يا علماء الأمة، ويا دعاة الإسلام، ماذا بعد
هذا التكريم، وهذا التشريف؟ أليس هناك تكليف؟ قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ
وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب:
39]،
ويا ورثة الأنبياء، ويا أشد الناس حبا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه عز وجل: ﴿يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67] إن غزة تستغيث، وإنها دماء وأشلاء،
إنهم جوعى، وعطشى، وحفاة وعراة، ألا تحرككم هذه المشاهد المروعة؟ ألا تبكيكم هذه
الصور المفزعة؟، لا تنسوا أنهم إخوانكم، ويقولون: "لا إله إلا الله محمد
رسول الله"، وقد استنصروكم في الدين، والله تعالى يقول : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا
أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ
وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال:
72].
وعليه فلا يليق بالمسلم أبدا سواء أكان من
العلماء أو من غيرهم أن يخدل أخاه، أو يخونه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله"، ومن الظلم والخذلان إصدار
الفتاوى التي تعمل على تشجيع الكيان على المزيد من المجازر والدماء، هذا فضلا عن
تشويه القضية، وتضليل الأمة، وإبعادها عن مقدساتها مظهرا وجوهرا، وشكلا ومضمونا.
يا علماء الأمة، ويا دعاة الإسلام إن مثل هذه
الفتاوى لا أجد لها إلا تفسيرا واحدا، وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "بادروا
بالأعمال، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا، ويمسي كافرا، أو يمسي
مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا".
ما
هكذا يكون العلماء الربانيون ، وما هكذا يكون الدعاة الصادقون، الذين لا هم لهم
إلا الوصول أو الحصول على مرضاة الله تعالى، فلا دنيا تشغلهم، ولا مناصب تغريهم،
ولا مال يغويهم، قال الأصمعي والإسماعيلي: "الرَّباني نِسبة إلى الرَّبّ؛ أي
الذي يقصد ما أمره الرَّبّ بقصده من العلم والعمل" ، وقال ابن القيم: "هم
ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا، ودعوة للخلق
إلى الله على طرقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة...وهؤلاء
هم الربانيون وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه
وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه.."
وانطلاقا
مما سبق فالواجب يا أعلام الهدى، ومصابيح الدجى أن نتقي الله تعالى في غزة
وأهلها، وذلك بعدم كتمان الحق، لسبب من أسباب الدنيا الفانية أو الزائلة، قال الله
تعالى: ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ
وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]، والحذر كل الحذر أن
تكونوا من علماء السلطان، أو دعاة الكراسي والنفوذ، وصدق من قال:
عجبت
لمبتاع الضلالة بالهدى
وللمشتري
دنياه بالدين أعجب
وأعجبُ
من هذين من باع دينه
بدنيا
سواه فهو من ذين أخيبُ
و كونوا عونا لإخوانكم لا لأعدائكم،
وانصروا الدين بالفتاوى الربانية، والمواقف الرجولية، التي ستكتب لكم خالدة ومخلدة،
وبسببها ستترحم عليكم الأمة جيلا بعد جيل،
واصدحوا بالحق ،ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وأنتم أدرى بموقف الإمام
مالك رحمه الله تعالى في طلاق المكره، وبموقف الإمام أحمد رحمه الله تعالى و فتنة
خلق القرآن الكريم، و موقف الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى مع الصالح
إسماعيل الأيوبي، وغير ذلك من مواقف
العلماء الربانيين، والتي نتمنى أن تتكرر معكم أيضا خدمة لهذا ، وأداء للواجب على
أكمل وجه، و أخيرا تذكروا: "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر
في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه."
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أ. د/ محمد
دمان ذبيح؛ جامعة محمد العربي بن مهيدي أم البواقي -الجزائر، عضو الاتحاد العالمي
لعلماء المسلمين.