دعاة الفساد والانحلال في الميزان (2)
بقلم: موفق شيخ
إبراهيم
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
**
اقرأ: دعاة الفساد والانحلال في الميزان (1)
**
إن
الصلاح الذي يظلِّل المجتمع، ويعيش أفرادُهُ في أفيائه، يكرِّس قيم الهدى في
أرجائه. كما أن انتشار المنكرات وتمكُّنها في المجتمع، يدعم منظومة الفساد،
ويمنحها قوة وتأثيراً. وانتشارها يجرِّئ الناس ويوسِّع الفساد فإذا لم يظهر ويغزُ
البيوت، غفل عنه الناس وتركوه.
ومن هنا
كان من حكمة الشريعة في إنكار المنكر، إضعافه وتقليله لئلا يؤثر على باقي أفراد
المجتمع، والمنكر إن ارتبط بالفاحشة وتفاعل مع رغبات النفس وأهوائها، فلها سوقٌ
رائجةٌ!
والله
يحب أن تقبَر مظاهر الفساد الخلقي في مكانها. وإشاعة الفاحشة، كثيراً ما تنقل
المرأة والرجل، من الانحراف إلى الاحتراف. قال تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ﴾.
والإشاعة
تعني الانتشار، وشاع الحديث: إذا ظهر في العامَّة. وفي معنى الفاحشة قال ابن منظور
في لسان العرب: الفحش والفحشاء: القبيح من القول والفعل، وجمعهما الفواحش.
والفحشاء: اسم الفاحشة، والفاحش: ذو الفحش والخنا من قولٍ أو فعلٍ، وكثيراً ما
ترِد الفاحشة بمعنى الزنا. وخلاصة ما سبق، يشير إلى أن الفاحشة، ما ينفر عنه الطبع
السليم، ويستهجنه العقل المستقيم. فالفاحشة هي الأمور الشنيعة المستعظمَة! وإطلاق
الفاحشة لفظ عام، يدخل فيه كل ما كان منكراً، ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيره، أشكال
الشعر الغزلي الرقيق؛ لئلا تتحرك النفوس إلى الفواحش، فلهذا أمِر من ابتلي بالعشق،
أن يعفَّ ويكتم، فيكون حينئذ ممن قال الله جلَّ وعلا فيهم: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
توَّعد
الله الذين يُحِبُّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا بالعذاب الأليم، هذا إذا
أحبُّوا إشاعَتَها وإذاعَتَها، فكيف إذا تولَّوْا هم إشاعَتَها وإذاعَتَها.
والظالم لنفسه إذا أظهر المعصية، كان ذلك مما يجرِّئ الناسَ عليها، لأنه يكثُر
تحدُّثُهم بها فتتنبَّه الدواعي إلى مثلها، كما يحرص على أن يدعو الناس إلى مثل
فعله؛ ليشاركوه في سوء السمعة، فتخفُّ الملامة عنه. وإنَّ إصرار بعض أبناء
المسلمين - ممَّن تَربّوْا على موائد الثقافة والأخلاق الغَرْبية - على انتشار
المُنكر وحبِّ الفاحشة من خلال الفَنِّ الساقط، لَأَمْرٌ يُنذِرُ بسوء. ولقد حذَّر
القرآن الكريم المؤمنين من اتّباع خُطوات الشيطان، لأنها تؤدِّي إلى الأمْر
بالفَحشاء والمُنكر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾.
الشهوانيون
من تَّجار الفساد، وسماسرة الرذيلة، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بشتَّى صورها في
الناس، والتي منها مهنة تصميم الملابس التي تكشف بدن المرأة، كما صرَّح بذلك أحد
مصمِّمي الأزياء، حين قال: "نحن نسعى لنعرِّي جسد المرأة، لا لنستره"!
كل ذلك من أجل إضعاف الغيرة في النفوس، فلا المرأة تستحي، ولا الرجل يغار! وإذا
استساغ غير المسلمين هذا، فليس بمستغرَب. لكن عند المسلمين الذين نهلوا من هدي
القرآن، ومن معين السنَّة الغراء، هو شرٌّ مستطيرٌ ومصابٌ جللٌ! وإنها إذا انتشرت
هاجت النفوس المريضة إلى اقترافها، واستنَّ الغير بالغير في فعلها. وبعد ذلك يقول
قائلهم: أيبقى المسلمون في الفضيلة، ونحن في حمأة الرذيلة؟ لا نكون نحن وهم سواء!
إن من
أسوأ آثار الحفلات الماجنة - التي تنشط هنا وهناك في بلاد المسلمين، وجراحاتنا
تنزف دماً، ولنا في كل بلدٍ نائحةٌ وثَكْلَى – وانعكاساتها، هو تحطيم القيم، ونشر
الرذيلة، وخدش الحياء، وقتل الغيرة على حرمات الله التي هي مادة حياة القلب. ولا
ريب أن توالي هذه المشاهد في الساحات وعلى الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي،
يجعلها مع الوقت شيئاً عادياً، عند ضعاف النفوس، الذين لم تُشرَبْ قلوبُهُم بريِّ
الإيمان.
ويمكننا
القول، للذين لا يزال عندهم أثارةٌ من إيمان وبقية من حياء، تذكيراً لهم وإنذاراً
من المولى الخبير في خلقه، والذي تدل عليه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾،
أن مجرد حب إشاعة الفاحشة، يؤدي بصاحبه إلى استحقاق العقاب الأليم في الدنيا
والآخرة. والله تعالى لم يقل بأن عقوبتهم بالعذاب فقط، وإنما نعته بالأليم. ولا
يمكننا أن نتصور أبداً مدى ألم هذا العقاب، ومن ثم علينا ألا نستهين به، وهو عند
الله عظيم! كما أن هذا العقاب، لا يتوقف على حياة واحدة في الدنيا، بل يمتد إلى
الدار الآخرة، ليشهد عقابَه الأليمَ، أهلُ القيامة، ويظل آحادهم ينتظر الأمل
بشفاعةٍ قد تنجيه من هذا العذاب؛ قد لا ينالها! فأيُّ شؤم يطال محبي إشاعة
الفاحشة؛ وآحادهم يتقلَّب في عذاب أليم قاده إليه قلبه، عندما تجرأ على التسلُّق
على جدار حمى ما نهى الله عنه؟! وإذا كان ما سبق من عقابٍ أليمٍ، ناله من أحبَّ
بقلبه إشاعة الفاحشة؛ عدلاً واستحقاقاً، فكيف بمن ساهم في نشرها بكل ما أوتي من
إمكاناتٍ ماديةٍ وبإعلامٍ مشبوهٍ ودعايةٍ رخيصةٍ! ورصد لذلك الجوائز المغرية،
والمسابقات النكِدة المشينة، وهيَّأ لها الأماكن المُترفَة، في تسابق أحياناً مع
أشباهه، محموم بغيض وحاقد على القيم وأهلها! وأصبح المشاركون في الحفلات الماجنة،
هم النجوم والقدوات، التي يهتدي بها بعض شباب المسلمين التائه، ليزدادوا انحرافاً
وضياعاً! وتتحول أجيالنا إلى قطعان تنساق إلى مذابحها في دينها، وهي ضاحكة
مستبشرة! في الوقت الذي نرى خصومنا يتقاسمون الأدوار فيما بينهم وبأموالنا،
ووقودهم شبابنا ونساؤنا، كل منهم قد علم المطلوب منه جيداً، فأتقنه وأدَّاه؛ وبذا
أصبحنا أمة أحبت إشاعة الفاحشة؛ من حيث ندري أو لا ندري، وعذاب الله ينتظر الجميع!
هذا وقد
جاء في تعقيب الفخر الرازي، على قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾: "فهو حسن الموقع بهذا
الموضع؛ لأن محبة القلب كامنة، ونحن لا نعلمها إلا بالأمارات. أما الله سبحانه فهو
لا يخفى عليه شيء؛ فصار هذا الذكر نهاية في الزجر؛ لأن من أحبَّ إشاعة الفاحشة،
وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلم ذلك منه. وإن علمه
سبحانه بذلك الذي أخفاه، كعلمه بالذي أظهره، ويعلم قدر الجزاء عليه. كما تدلُّ
الآية على أن العزم على الذنب العظيم عظيم، وأن إرادة الفسق فسق؛ لأنه تعالى علَّق
الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة!".
اللهم
إنا نضرع إليك ضراعة من برىء إليك من كل حول وطول وقوة، ونستهديك في زمان قد
اندثرت فيه معالم الهدى، وعمي على الناس مسارهم في غمرة الضلالة.
اللهم
ثبت أقدامنا حيث تزلُّ الأقدام، وأنر بصائرنا حيث تعمى البصائر. نلوذ بحماك أن
نكون ممن يحبُّ إشاعة الفاحشة، ونربأ بكل مسلمٍ أن ينزل بساحتها. إنك سبحانك خير
مأمول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.