من كتاب السِّيرة النَّبويّة للدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ
الحلقة الرابعة والثلاثون
صور من البلاء العظيم الذي تعرَّض له صحابة النبيُّ صلى الله عليه وسلم (2)
نكمل في هذه الحلقة ما قدمناه من قبل من صور تحمَّل فيها الصَّحابة رضي الله عنهم من البلاء العظيم من الأذى والتعذيب، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى الدين الإسلامي العظيم.
- ما لاقاه مصعب بن عُمَير رضي الله عنه:
كان مصعب بن عمير أنعمَ غلامٍ بمكَّة، وأجودَها حلَّةً، وكان أبواه يحبِّانه، وكانت أمُّه مليئةً كثيرة المال، تكسوه أحسن ما يكون من الثِّياب وأرقَّه، وكان أعطرَ أهل مكَّة، يلبس الحضرميَّ، من النِّعال، وبلغ من شدَّة كلف أمِّه به: أنَّه كان يبيت وقعْبُ الحَيْس عند رأسه، فإذا استيقظ من نومه؛ أكل، ولـمَّا علم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ دخل عليه، فأسلم، وصدَّق به، وخرج فكتم إسلامه خوفاً من أمِّه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّاً، فبصر به عثمان بن طلحة يصلِّي، فأخبر أمَّه وقومه، فأخذوه، وحبسوه، فلم يزل محبوساً حتَّى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى.
قال سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه: لقد رأيته وقد جَهِدَ في الإسلام جهداً شديداً، حتَّى لقد رأيت جلده يتحشَّف - أي: يتطاير - تحشُّف جلد الحيَّة عنها، حتَّى إن كنا لنعرضه على قتبنا فنحمله ممَّا به من الجهد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّما ذكره، قال: «ما رأيت بمكَّة أحداً أحسن لمَّةً، ولا أرقَّ حلَّةً، ولا أنعم نعمةً، من مصعب بن عمير» [الحاكم (3/200)]، ومع كلِّ ما أصابه رضي الله عنه من بلاءٍ ومحنةٍ، ووهنٍ في الجسم، والقوَّة، وجفاءٍ من أقرب النَّاس إليه لم يقصِّر عن شيءٍ ممَّا بلغه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير، والفضل، والجهاد في سبيل الله تعالى، حتَّى أكرمه الله تعالى بالشَّهادة يوم أحدٍ.
يُعَدُّ مصعبٌ رضي الله عنه أنموذجاً من تربية الإسلام للمترفين الشَّباب، للمنعمين من أبناء الطَّبقات الغنيَّة المرفَّهة، لأبناء القصور، والمال، والجاه، للمعجبين بأشخاصهم، المبالغين في تأنُّقهم، السَّاعين وراء مظاهر الحياة كيف تغيَّرت، ووقف بعد إسلامه قويَّاً لا يضعف، ولا يتكاسل، ولا يتخاذل، ولا تقهره نفسه، وشهواته؛ فيسقط في جحيم النَّعيم الخادع.
لقد ودَّع ماضيه بكلِّ ما فيه من راحةٍ ولـذَّةٍ، وهناءةٍ، يوم دخل هذا الدِّين، وبايع تلك البيعة، وكان لابدَّ له من المرور في درب المحنة؛ لكي يصقل إيمانه، ويتعمَّق يقينه، وكان مصعب مطمئناً راضياً برغم ما حوله من جبروتٍ، ومخاوف، وبرغم ما نزل به من البؤس، والفقر، والعذاب، وبرغم ما فقده من مظاهر النَّعيم والرَّاحة، فقد تعرَّض لمحنة الفقر، ومحنة فَقْدِ الوجاهة، والمكانة عند أهله، ومحنة الأهل والأقارب والعشيرة، ومحنة الجوع والتَّعذيب، ومحنة الغربة والابتعاد عن الوطن، فخرج من كلِّ تلك المحن منتصراً بدينه وإيمانه، مطمئنـاً أعمـق الاطمئنان، ثابتـاً أقوى الثبات، ولنا معـه وقفـات في المدينة بإذن الله تعالى.
- ما لاقاه خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه:
كان خبَّاب رضي الله عنه قَيْناً بمكَّة، وأراد الله له الهداية مبكِّراً، فدخل في الإسلام قبل دخول دار الأرقم بن أبي الأرقم، فكان من المستضعفين الَّذين عُذبوا بمكَّة لكي يرتدَّ عن دينه، ووصل به العذاب بأن ألصق المشركون ظهره بالأرض على الحجارة المحمَّاة حتَّى ذهب ماء مَتْنه.
وكان الرَّسول صلى الله عليه وسلم يألف خباباً، ويتردَّد عليه بعد أن أسلم، فلـمَّا علمت مولاته بذلك، وهي أمُّ أنمار الخزاعيَّة، أخذت حديدةً قد أحمتها، فوضعتها على رأسه، فشكا خبابٌ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم : «اللَّهمَّ انصر خباباً!» فاشتكت مولاتُه رأسَها، فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فجاءت إلى خبَّابٍ ليكويها، فكان يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها، وإن في ذلك لعبرةً لمن أراد أن يعتبر، ما أقرب فرج الله، ونصره من عباده المؤمنين الصابرين! فانظر كيف جاءت إليه بنفسها تطلب منه أن يكويَ رأسَها.
ولما زاد ضغط المشركين على ضعفاء المسلمين، ولقوا منهم شدَّةً؛ جاء خبَّابٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظلِّ الكعبة، فقال له: «ألا تستنصرُ لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟!»، فقعد الرَّسول صلى الله عليه وسلم وهو محمرٌّ وجهه، قال: «كان الرَّجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عَصَب، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله! لَيَتمَّنَّ هذا الأمر حتَّى يسير الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَموتَ، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
وللشيخ سلمان العودة - حفظه الله - تعليقٌ لطيفٌ على هذا الحديث، هو: يا سبحان الله! ماذا جرى حتى احمرَّ وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقعد من ضجعته، وخاطب أصحابه بهذا الأسلوب القويِّ المؤثِّر، ثمَّ عاتبهم على الاستعجال؛ لأنهم طلبوا الدُّعاء منه صلى الله عليه وسلم ؟ كلا، حاشاه من ذلك، وهو الرَّؤوف الرَّحيم بأمَّته.
إنَّ أسلوب الطَّلب: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ يوحي بما وراءه، وأنَّه صادر من قلوبٍ أضناها العذاب، وأنهكها الجهد، وهدَّتها البلوى، فهي تلتمس الفرج العاجل، وتستبطئ النَّصر، فتستدعيه، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم: أنَّ الأمور مرهونةٌ بأوقاتها، وأسبابها، وأنَّ قبل النَّصر البلاءُ، فالرُّسل تُبتلى، ثمَّ تكون لها العاقبة، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110] . ويلمس - عليه السَّلام - من واقع أصحابه، وملابسات أحوالهم، بَرَمهم بالعذاب الذي يلاقون، حتَّى يُفتنوا عن دينهم، ويستعلي عليهم الكفرة، ويموت منهم من يموت تحت التَّعذيب.
وقد لا يكون من الميسور أن يدرك المرء - بمجرَّد قـراءة النَّصِّ - حقيقة الحال التي كانوا عليها، حين طلبوا منه - عليه الصَّلاة والسَّلام - الدُّعاء، والاستنصار، ولا أن يعرف المشاعر والإحساسات الَّتي كانت تثور في نفوسهم، إلا أن يعيش حالاً قريباً من حالهم، ويعاني - في سبيل الله - بعضَ ما عانوا. لقد كان صلى الله عليه وسلم يربِّيهم على:
- التأسِّي بالسَّابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، في تحمُّل الأذى في سبيل الله، ويضرب لهم الأمثلة في ذلك.
- التَّعلُّق بما أعدَّه الله في الجنة للمؤمنين الصَّابرين من النَّعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدُّنيا.
- التَّطلُّع للمستقبل، الَّذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدُّنيا، ويذلُّ فيه أهل الكفر، والعصيان.
وثمَّة أمرٌ آخر كبيرٌ، ألا وهو أنَّه صلى الله عليه وسلم مع هذه الأشياء كلِّها كان يخطِّط، ويستفيد من الأسباب المادِّيَّة المتعدِّدة لرفع الأذى والظُّلم عن أتباعه، وكفِّ المشركين عن فتنتهم، وإقامة الدَّولة الَّتي تجاهد في سبيل الدِّين، وتتيح الفرصة لكلِّ مسلمٍ أن يعبد ربَّه حيث شاء، وتزيل الحواجز، والعقبات الَّتي تعترض طريق الدَّعوة إلى الله، وقد تحدَّث خبابٌ رضي الله عنه عن بعض ما كانوا يلقونه من المشركين، من عنتٍ، وسوء معاملة، ومساومةٍ على الحقوق، حتَّى يعودوا إلى الكفر، فقال: كنت رجلاً قَيْناً، وكان لي على العاص بن وائل دَيْنٌ، فأتيته لأقتضيه، فقال لي: لن أقضيك حتَّى تكفر بمحمَّد، فقلت: لن أكفر حتَّى تموت، وتبعث، قال: وإنِّي لمبعوث بعد الموت؟ فإن كان ذلك؛ فلسوف أقضيك؛ إذا رجعت إلى مالي وولدي، فنزلت فيه: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتنَا وَقَالَ لأَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا ﴾ إلى قوله: ﴿وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴾ [مريم: 77 - 80] [البخاري (2091) ومسلم (2795)] .
وذُكِرَ أنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في خلافته سأل خبَّاباً عمَّا لقي في ذات الله تعالى، فكشف خبابٌ عن ظهره، فإذا هو قد برص، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، فقال خباب: يا أميرَ المؤمنين، لقد أوْقَدُوا لي ناراً، ثمَّ سلقوني فيها، ثمَّ وضع رَجُلٌ رِجْلَه على صدري، فما اتَّقيت الأرض - أو قال: برد الأرض - إلا بظهري، وما أطفأ تلك النَّار إلا شحمي.
- ما لاقاه عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه:
كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته للنَّاس حكيماً، وكان يعامل الأكابر وزعماء القبائل بلطفٍ وترفُّقٍ، وكذلك الصِّبيان الصِّغار؛ فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يحدِّثنا عن لقائه اللَّطيف برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعُقْبة بن أبي مُعَيْط، فمرَّ بي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، فقال: يا غلام! هل من لبنٍ؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمنٌ، قال: فهل من شاةٍ لم يَنْزُ عليها فحلٌ؟ فأتيته بشاةٍ، فمسح ضرعها، فنزل لبنٌّ فحلبه في إناءٍ، فشرب، وسَقَى أبا بكرٍ، ثمَّ قال للضَّرع: اقلص، فقلص، قال: ثمَّ أتيته بعد هذا فقلت: يا رسولَ الله! علِّمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي، وقال: «يرحمك الله! فإنَّك غُلَيِّم معلَّمٌ» [أحمد (1/379 و462) وأبو يعلى (4985) والطيالسي (353) والحلية (1/125)].
وهكذا كان مِفْتَاحُ إسلامه كلمتين عظيمتين: الأولى: قالها عن نفسه: «إنِّي مؤتمن»، والثانية: كانت من الصادق المصدوق، حيث قال له: «إنك غُلَيِّم معلَّم». ولقد كان لهاتين الكلمتين دورٌ عظيمٌ في حياته، وأصبح فيما بعد من أعيان علماء الصحابة رضي الله عنهم، ودخل عبد الله في ركب الإيمان، وهو يمخر بحار الشِّرك في قلعة الأصنام، فكان واحداً من أولئك السَّابقين؛ الَّذين مدحهم الله في قرآنه العظيم، وقد قال عنه ابن حجر: «أحد السَّابقين الأوَّلين، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، والمشاهد بعدها، ولازم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب نعليه».
وبالرَّغم من أنَّ ابن مسعودٍ رضي الله عنه كان حليفاً، وليس له عشيرةٌ تحميه، ومع أنَّه كان ضئيل الجسم، دقيق السَّاقين، فإنَّ ذلك لم يَحُلْ دون ظهور شجاعته، وقوَّة نفسه رضي الله عنه وله مواقف رائعةٌ في ذلك؛ منها ذلك المشهد المثير في مكَّة، وإِبَّان الدَّعوة، وشدَّة وطأة قريشٍ عليها، فلقد وقف على مَلَئِهم، وجهر بالقرآن، فقرع به أسماعهم المقفلة، وقلوبهم المغلَّقة، فكان أوَّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة.
اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله! ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قطُّ، فَمَنْ رجلٌ يُسْمِعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعودٍ: أنا! قالوا: إنَّا نخشاهم عليك، إنَّما نريد رجلاً له عشيرةٌ يمنعونه من القوم؛ إن أرادوه! قال: دعوني؛ فإنَّ الله سيمنعني! قال: فغدا ابن مسعودٍ حتَّى أتى المقام في الضُّحى؛ وقريشٌ في أنديتها؛ حتَّى قام عند المقام، ثم قرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾-رافعاً بها صوته- ﴿الرَّحْمَانُ *عَلَّمَ الْقرآن ﴾، قال: ثمَّ استقبلها يقرؤها، قال: فتأمَّلوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابنُ أمِّ عبد؟ قال: ثمَّ قالوا: إنَّه ليتلو بعض ما جاء به محمَّدٌ! فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتَّى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثمَّ انصرف إلى أصحابه، وقد أثَّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك! فقال: ما كان أعداءُ الله أهونَ عليَّ منهم الان، ولئن شئتم لأغادينَّهم بمثلها غداً! قالوا: لا! حسبُك، قد أسمعتهم ما يكرهون. وبهذا كان عبد الله بن مسعود أوَّل مَنْ جهر بالقرآن بمكَّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا غرو: أنَّ هذا العمل الَّذي قام به عبد الله يعتبر تحدِّياً عملياً لقريشٍ؛ التي ما كانت لتتحمل مثل هذا الموقف، ويلاحظ جرأة عبد الله عليهم بعد هذه التَّجربة على الرَّغم ممَّا أصابه من أذَى.
- ما لاقاه خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه:
كان إسلام خالدٍ قديماً؛ لرؤيا رآها عند أوَّل ظهور النَّبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ رأى كأنَّه وقف على شفير النَّار، وهناك مَنْ يدفعه فيها، والرَّسول يلتزمه لئلا يقع، ففزع من نومه، معتقداً: أنَّ هذه الرؤيا حقٌّ، فقصَّها على أبي بكرٍ الصِّدِّيق، فقال له: أُرِيدَ بك خيراً، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتَّبعه، فذهب إليه فأسلم، وأخفى إسلامه خوفاً من أبيه، لكنَّ أباه علم لـمَّا رأى كثرة تغيُّبه عنه، فبعث إخوته الَّذين لم يكونوا قد أسلموا بعد في طلبه، فجيء به، فأنَّبه، وضربه بمقرعةٍ، أو عصاً كانت في يده، حتى كسرها على رأسه، ثمَّ حبسه بمكَّة، ومنع إخوته من الكلام معه، وحذَّرهم من عمله، ثمَّ ضيق عليه الخناق؛ فأجاعه، وقطع عنه الماء ثلاثة أيَّامٍ، وهو صابرٌ محتسبٌ، ثمَّ قال له أبوه: والله لأمنعنَّك القوت! فقال خالد: إن منعتني فإنَّ الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه، ويكون معه، ثمَّ رأى أن يهاجر إلى الحبشة مع من هاجر إليها من المسلمين في المرَّة الثَّانية.
- ما لاقاه عثمان بن مظعونٍ رضي الله عنه:
لـمَّا أسلم عَدَا عليه قومُه بنو جمح، فاذوه، وكان أشدَّهم عليه وأكثرهم إيذاءً له أميةُ بن خلف، ولذلك قال بعد أن خرج إلى الحبشة يعاتبه:
أأخرجتنِي مِنْ بطن مكَّةَ آثماً
|
|
وأَسْكَنْتَنِي في صَرْحِ بَيْضَاءَ تُقْدَعُ
|
تَرِيْشُ نِبَالاً لاَ يُواتِيْكَ رِيْشُهَا
|
|
وَتَبْرِي نِبَالاً رِيْشُهَا لَكَ أَجْمَعُ
|
وحَارَبْتَ أَقْواماً كِرَاماً أَعِزَّةً
|
|
وأهْلَكْتَ أَقْوَاماً بِهِمْ كُنْتَ تَفْزَعُ
|
سَتَعْلَمُ إِنْ نَابَتْكَ يَوْمَاً مُلِمَّةٌ
|
|
وأَسْلَمَكَ الأَوْبَاشُ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ
|
وبقي عثمان بن مظعون فترةً في الحبشة، لكنَّه لم يلبث أن عاد منها ضمن من عاد من المسلمين في المرَّة الأولى، ولم يستطع أن يدخل مكَّة إلا بجوارٍ من الوليد بن المغيرة، حيث ظلَّ يغدو في جواره امناً مطمئناً، فلـمَّا رأى ما يصيب أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من البلاء، وما هو فيه من العافية، أنكر ذلك على نفسه، وقال: والله! إنَّ غُدوِّي، ورَواحي امناً بجوار رجلٍ من أهل الشِّرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني؛ لنقصٌ كبير في نفسي، فذهب إلى الوليد بن المغيرة، وقال له: يا أبا عبد شمس! وفت ذمَّتك، وقد ردَدت إليك جوارك! فقال: لِمَ يابن أخي؟ فلعلَّك أوذيت، أو انتهكت، قال: لا! ولكني أرضى بجوار الله تعالى، ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلِقْ إلى المسجد فارددْ عليَّ جواري علانيةً، كما أجرتك علانيةً، فانطلقا إلى المسجد فردَّ عليه جواره أمام النَّاس، ثمَّ انصرف عثمان إلى مجلسٍ من مجالس قريش، فجلس معهم، وفيهم لبيد بن ربيعة الشَّاعر ينشدهم، فقال لبيد: «ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ». فقال عثمان: صدقت، واستمرَّ لبيد في إنشاده، فقال: «وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائل»، فقال: عثمان: كذبت، نعيم الجنَّة لا يزول! قال لبيد: يا معشر قريش! والله ما كان يُؤْذَى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجلٌ من القوم: إنَّ هذا سفيهٌ في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدنَّ في نفسك من قوله، فردَّ عليه عثمان حتَّى شَرِيَ أمرُهما، فقام إليه ذلك الرَّجل، فلطم عينه فاخْضرَّت، والوليد بن المغيرة قريبٌ يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يابن أخي! إن عينك لغنيةٌ عمَّا أصابها، ولقد كنت في ذمَّةٍ منيعةٍ، فقال عثمان: والله! إنَّ عيني الصَّحيحة لفقيرةٌ إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإنِّي لفي جوار من هو أعزُّ منك، وأقدر يا أبا عبد شمس! ثمَّ عرض عليه الوليد الجوار مرَّةً أخرى، فرفض.
وهذا يدلُّ على مدى قوَّة إيمانه رضي الله عنه، ورغبته في الأجر، والمثوبة عند الله؛ ولذلك لـمَّا مات، رأت أمُّ العلاء الأنصاريَّة - وكان عثمان ممَّن وقع في سهمها عندما اقترع الأنصار على سكنى المهاجرين - في المنام: أنَّ له عيناً تجري، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «ذلك عملُه» [البخاري (7004)] .
وغير هؤلاء من الصَّحابة الكرام تعرَّض للتَّعذيب، وهكذا نرى أولئك الشَّباب، قد أقبلوا على دعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، واستجابوا لها، والتفُّوا حول صاحبها؛ على الرَّغم من مواقف آبائهم، وذويهم، وأقربائهم المتشدِّدة تجاههم، فضحُّوا بكل ما كانوا يتمتَّعون به من امتيازاتٍ قبل دخولهم في الإسلام، وتعرَّضوا للفتنة؛ رغبةً فيما عند الله تعالى من الأجر، والثَّواب، وتحمَّلوا أذىً كثيراً، وهذا فعل الإيمان في النفوس عندما يخالطها، فتستهين بكلِّ ما يصيبها من عنتٍ، وحرمانٍ؛ إذا كان ذلك يؤدِّي إلى الفوز برضا الله تعالى، وجنَّته. هذا، ولم يكن التَّعذيب والأذى مقصوراً على رجال المسلمين دون نسائهم، وإنَّما طال النِّساء أيضاً قسطٌ كبير من الأذى والعنت بسبب إسلامهنَّ، كسميَّة بنت خياط، وفاطمة بنت الخطَّاب، ولبيبة جارية بني المؤمِّل، وزِنِّيرة الرُّوميَّة، والنَّهْدية، وابنتها، وأمِّ عُبَيْسٍ، وحمامةَ أمِّ بلال، وغيرهنَّ.