البحث

التفاصيل

النية والعمل

الرابط المختصر :

النية والعمل

بقلم: علي عزت بيجوفيتش

 

‏في عالم الطبيعة توجد الأشياء وجودا موضوعيا في الأرض تدور حول الشمس سوى عرفنا ذلك أو لم نعرف، وسواء رغبنا في ذلك أو لم نرغب، قد نكره هذه الحقيقة ولكننا لا نستطيع تجاهلها أو تغييرها. أما في عالم الأخلاق فإن هذه الحقائق لا معنى لها فهي ليست خيرا ولا شرا بل لا وجود لها في عالمنا في عالمنا الداخلي ليس للأشياء وجود موضوعي، لأننا نحن الذين نساهم مباشرة في وجودها، نحن الذين نسكن هذا العالم الداخلي وهذا هو ميدان الحرية الإنسانية.

‏في العالم الخارجي نفعل ما يجب علينا أن نفعله في هذا العالم، يوجد الغني والفقير الذكي والغبي المتعلم والجاهل القوي وضعيف (وجميع هذه الأشياء لا تتوقف على إيراداتنا ولا تعبر عن دعواتنا الأصلية).

‏في مقابل هذا العالم يوجد عالمنا الداخلي وهو عالم قوامه الاختيار والحرية المتساوية وهي حرية كاملة حيث لا تحدها حدود مادية أو طبيعية.

‏وتعبر الحرية عن نفسها في النية والإرادة؛ فكل إنسان يتوق إلى أن يحيا في اتساق مع ضميره وفقا لقوانين أخلاقية معينة، وقد لا يكون هذا سهلا عند البعض، إلا أن كل إنسان يقدر قيمة الاستقامة، وكثير من الناس لا يعرفون سبيلا لدفع الظلم، ولكن جميع الناس قادرون على كراهية الظلم واستهجانه في قلوبهم، وفي هذا يكمن معنى الندم؛ ليست الإنسانية في الكمال أو العصمة من الخطأ، فإن تخطئ وتندم هو أن تكون إنسانا. انظر إلى شخصية

“أليوشا كرامازوف” وشخصية ” ميشا كرامازوف” (أليوشا) مدهش في شخصيته التي تكاد تكون كاملة، بينما (ميشا) يتفجر إنسانية، ورغم كل ما فيه من أهواء وأخطاء تستشعر بيقين أنه أقرب إلى رحمة الله وغفرانه.

ككم من أشياء ‏فعلناها وكنا لا نريد حقيقة أن نفعلها؟ وكم من أشياء وددنا أن أفعلها ولكن لم نفعلها أبدا؟ إذن، هناك عالمان: عالم القلب وعالم الطبيعة، فالرغبة قد لا تتحقق ولكنها حقيقة في عالم قلوبنا، حقيقة كاملة. ومن جهة أخرى، يقع الفعل بالصدفة المحضة، فعل لم يكن مقصودا ولكنه حدث كاملا في عالم الطبيعة، ولم يحدث مطلقا في العالم الآخر، عالم الحياة الداخلية.

‏هذه العلاقة بين الإرادة والفعل تعكس التناقض المبدئي بين الإنسان والعالم وتظهر على السواء في الأخلاق والفن والدين؛ فالنية والرغبة والتقوى تنتمي داخليا بعضها إلى بعض وعلاقتها واحدة في انعكاساتها المادية في السلوك، وفي العمل الفني، وفي الشعائر التعبدية؛ فالأولى تجربة روحية، والثانية أحداث في العالم الخارجي.

‏وهنا يُثار سؤال: هل نحكم على الأعمال بالنوايا التي تنطوي عليها، أم بالنتائج التي ترتب عليها؟ الموقف الأول هو رسالة كل دين، أما الموقف الثاني؛ فهو شعار كل أيديولوجية أو ثورة، فهناك منطقان متعارضان أحدهما يعكس إنكار العالم، والآخر يعكس إنكار الإنسان.

‏وكان لابد للعلم وللنظرية المادية أن يُدليا بدلويهما في مسألة أصالة النية والقصد في السلوك الإنساني، وانتهيا إلى أن النية ليست مبدأ أوليًا ولا أصيلا، بل شيء لا يوجد له تفسير عندهما، شيء هو أقرب إلى أن يكون نتيجة من أن يكون سببا. ومن ثم، فمصدر الفعل الإنساني – عندهما – ليس النية، وإنما يقع في منطقة وراء الوعي هي منطقة الجبرية العامة.

‏يقرر الدين عكس ذلك حيث يؤكد أن هناك مركزا داخليا في كل إنسان يختلف عن بقية العالم، وهو أعمق ما في هذا الكائن الإنساني، ألا وهي النفس. والنية خطوة إلى أعماق الذات، ومن هنالك يتبنى الإنسان الفعل أو يحققه ويؤكده تأكيدا داخليا. قد يقوم به في العالم الخارجي وقد لا يفعل، إنما في العالم الداخلي قد تحقق الفعل وانتهى بدون الرجوع إلى هذا العالم الداخلي يصبح عمل الإنسان عملاً آليا، مجرد صدفة في العالم الداخلي الزائل.

‏ليس الإنسان بما يفعل بل بما يريد، بما يرغب فيه بشغف. وفي الأدب لا يقتصر الكاتب على الحبكة الروائية أو المسرحية، وإنما يتعمق في نفسية بطله ويصف حوافزه الخفية، فإذا لم يفعل ذلك، كان ما يكتبه مجرد سردٍ لتاريخ زمني بالأحداث، وليس عملاً أدبيا.

‏لقد ذهب “أرنولد جيولنكس” إلى أن وجودنا الحقيقي يشتمل على الإدراك والإرادة فقط، وهو مركب يجعلنا عاجزين عن القيام بأعمال أبعد من حدود وعينا، وتكاد تكون جميع الأفعال، أبعد من قدرتنا لأنها جميعا ملك “للمشيئة الإلهية”، ولذلك فإن الأخلاق ليست في العمل المخلص، وإنما فقط في النية المخلصة.

‏ويعبّر “هيوم” عن فكرة مماثلة حيث يقول إن الفعل ليس في ذاته قيمة خلقية، ولكي نعرف القيمة الخلقية لإنسان علينا أن ننظر في داخله، وحيث إننا لا نستطيع ذلك بطريق مباشر؛ فإننا نصرف نظرنا إلى أفعاله، ولكن هذه الأفعال كانت ولا تزال مجرد رموز على الإرادة الداخلية، ومن ثم فهي أيضًا رموز للتقييم الأخلاقي.

‏العمل الذي انعقدت عليه النية، هو عمل قد تم أداؤه في عمل الأبدية، أما أداؤه الخارجي، فيحمل طابعا أرضيا فهو مشروط لا أصالة فيه. إنه صدفة، بل لا معنى له. النية حرة، أما الأداء فيخضع للقيود والقوانين والشروط، النية جميعها ملك لنا، أما الأداء فينطوي على أمور غريبة عنا، عرضية في ذاتها.

‏والإنسان خيّر ما أراد أن يكون خيّرا، وفي حدود فهمه للخير، حتى ولو اعتُبر هذا الخير شرا في نظر شخص آخر، والإنسان شرير ما أراد أن يفعل الشر، حتى ولو بدا فيه خير للآخرين أو من وجهة نظر الآخرين. فمدار القضية في عالم الإنسان الداخلي الخاص، في إطار هذه العلاقة -وهي علاقة داخلية روحية – يقف الإنسان وحده تماما، وهو حر كشأن الآخرين، وهذا هو معنى عبارة “سارتر” التي تقول إن كل إنسان مسؤول مسؤولية مطلقة، وإنه ليس في الجحيم ضحايا أبرياء ولا مذنبون أبرياء.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

• المصدر: كتاب: علي عزت بيجوفيتش (الإسلام بين الشرق والغرب) / منشور في موقع الإحياء والتجديد.





السابق
"صراع المشاريع"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع