البحث

التفاصيل

الاستهلاك وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي (2)

الرابط المختصر :

الاستهلاك وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي (2)

كتبه: البروفيسور: محمد دمان ذبيح

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

اقرأ: (الاستهلاك وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي المحورالأول: مفهوم الاستهلاك)

 

 وضع الإسلام مجموعة من الضوابط التي تنظم الاستهلاك بما يعرف بـ "الاستهلاك الرشيد" Rational consumption  المنضبط، والتي تعمل على استقرار المجتمع، ودفع عجلة التنمية فيه[1]، ولعل أبرز هذه الضوابط[2]ما يلي:

أولا: دائرة الاستهلاك الحلال

    الإسلام يصنف السلع إلى مجموعتين متمايزتين وهما:

المجموعة الأولى: مجموعة السلع الحلال يمكن تسميتها بالطيبات.

المجموعة الثانية: مجموعة السلع المحرمة ويمكن تسميتها بالخبائث.

        وهنا نجد تحريم الإسلام لبعض الأشياء كالميتة ،والدم ولحم الخنزير، لأنها رجس تسيء إلى طاقات الإنسان الجسدية، وكذلك الخمر، وعموم المسكرات والمخدرات تسيء إلى طاقاته العقلية، والفسق يخل بطاقاته الروحية، لـذلك فـهي تتناقض مع غاية الاستهلاك، ووظيفته قال الله تعالى:﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه[ الأنعام : 145]،    فالأصل هو حل الطيبات، وحرمة الخبائث، وكل ما أضر بالإنسان منع وإن لم يرد نص بكتاب أو سنة ، لأن في هذا التحريم صونا لثروة الأمة، وحفظا لها من الجريمة والفساد والتبعية، وفيه زيادة الادخار، وتمويل المشاريع المهمة والضرورية والنافعة للمجتمع.

ثانيا: النهي عن الإسراف والتبذير[3]

     حيث يقول الله عز وجل: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين [الأعراف: 31].

    ويقول كذلك: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء ك 27].

       ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد".[4]

       فالتبذير والإسراف أمران بغيضان لدى المشرع الإسلامي، ولهما آثار سلبية على الاقتصاد ،حيث يقطعان ديمومة مصادر الأموال، ويحولان دون توفر الأموال اللازمة لتحقيق أغراض الإنفاق، وعمليات الاستثمار، فهما يؤديان إلى الحرمان والفاقة والتعطل والتخلف، وهذا ما تنأى عنه سياسات التمويل في الشريعة الإسـلامية، لذا فإنه من مـبادئ الاقتصـاد الإسلامي في هـذا الإطار الاعـتدال والتوازن، واستخدام المقدار الأدنى من السلع والخدمات دون إسراف أو تقتير[5]،وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا التوازن ،أو ما يعرف بتوازن المستهلكConsumer’s Equilibrium  في الاقتصاد الوضعي لن يتحقق إلا من خلال تساوي المنافع الحدية للسلع المختلفة مقسومة على أسعارها كما هو مبين في المعادلة التالية:

  

    أي تساوي المنفعة الحدية Marginal Utility لوحدة النقد في جميع أوجه الإنفاق على السلع المختلفة.[6]

ويرتكز قانون المنفعة الحدية على ظاهرة إشباع الحاجات الإنسانية، أي كلما زادت كمية الشيء المستهلك كلما قلت الحاجة إليه، أو الرغبة في الحصول على وحدات إضافية منه.

وينص قانون تناقص المنفعة الحدية على أنه " كلما زادت الكمية المستهلكة من شيء ما في مدة معينة، كلما زادت المنفعة الكلية، ولكن بنسبة متناقصة، أي أن نسبة الزيادة في المنفعة الكلية تكون أقل من نسبة الزيادة في عدد الوحدات المستهلكة"، ويستمر هذا التناقص حتى تصبح المنفعة الحدية مساوية للصفر.[7]

       وهذا معناه أن المستهلك في الاقتصاد الوضعي يكون في حالة توازن عندما يقوم بإنفاق كل الدخل على السلع والخدمات، محققا بذلك أقصى منفعة ممكنة وهو بذلك على خلاف المستهلك في الاقتصاد الإسلامي المطالب بالاستهلاك إلى الحد الذي يؤمن كامل طاقته، بصورة تحافظ على توازن المادة والروح، لينال ثوابي الدنيا والآخرة.

    لذا فإن قضية الاستهلاك في الاسلام ليست كما هي في الفكر المادي المعاصر قضية إنفاق يتناسب مع الانتاج، بل هي قضية توازن واعتدال في الإنفاق، مهما وسع الله سبحانه وتعالى على الإنسان من رزقه.[8]

ثالثا: ترتيب أولويات الاستهلاك

     حيث يجدر بالمستهلك المسلم أن يحدد أولويات إنفاقه حسب الأولويات التالية: الضروري والحاجي والتحسيني، وعدم تقديم أو تأخير إحداها على الآخر   حين لا تقتضي المصلحة ذلك، خاصة وأن هناك اعتبارات وترجيحات شـرعية تؤكد مبدأ وحدة سلم الاستهلاك للمجتمع المسلم، أو ما يعرف بوحدة دالة الرفاهية الاجتماعية، ولذلك يجب تخصيص الموارد بحسب سلم أولويات الحاجات الحقيقية لعموم أفراد المجتمع، وليس بحسب أسعار الطلب التي يستطيع دفعها الأغنياء من أبنائه فقط، وتتأكد هذه النظرة موضوعيا من خلال نظام التوزيع الإسلامي الذي يدعم اقتراحا ديمقراطيا على استخدامات الموارد، ومن خلال قوامة السياسة الشرعية، التي تستهدف تحقيق مصلحة الرعية من تخصيصها.[9]

رابعا: الموازنة بين الدخل والإنفاق

    حيث يجب على المكلف الموازنة بين دخله وإنفاقه، فمن كان دخله مثلا ألفا، لا ينفق ألفا وخمسمائة، فيضطر إلى الاستقراض، ويتحمل منة الدائن، والإضرار بميزانيته، فلا ينبغي لشخص أن ينفق شيئا إلا وهو ضمن حدود وسائله الاقتصادية، ولا يحل له أن يجاوز الحد حتى تكون نفقاته أكثر من دخله، ثم يضطر إلى تكفف الناس، أو نهب أموال غيره، أو يستقرض من الناس دون حاجة حقيقية، ثم لا يؤدي إليهم، أو يصرف في أداء دينه كل ما يملك من الوسائل الاقتصادية، ويدخل نفسه بأعماله وتصرفاته في زمرة الفقراء والمساكين.[10]

خامسا: دخول البعد الإيثاري والجزاء الأخروي

      وذلك في رسم دالة المنفعة الفردية، وتأثير اتجاهات سلوك المستهلك المسلم فيجعل متابعته لتحقيق منفعته الخاصة لا يتم إلا بإشباع حاجات الآخرين، فترى الأجر العظيم للصدقة والإحسان، والقرض الحسن، والنفقة على الأقارب، والهدايا والصلة وغيرها من ألوان البر والإيثار.

سادسا: النهي عن الترف والبذخ

      حيث اعتبر الإسلام الترف والبذخ والتنعم الزائد عن الحاجة من أسباب زوال النعم وتحولها، لأنه طريق إلى المعاصي، ونسيان الله تعالى، إضافة إلى أنه وسيلة من وسائل تدمير موارد الأمة الاقتصادية، وضياعها بغير منفعة أو فائدة، وغياب ما يسمى بالادخار الذي هو طريق الاستثمار، والنمو والتقدم.[11]

     وبهذا وفي ضوء ما سبق يتضح لنا أن الاستهلاك في الاسلام رشيد منضبط يساهم في بناء الاقتصاد، ودفـع عجلة التنمية في المجتمع[12]، فالله سبحانه وتعالى اختار للإنسان ما ينفعه، ويعينه على أداء رسالته في الحياة، وما على المسلم سوى اتباع نهج الله تعالى، والابتعاد عما نهي عنه، ليكون حينها مستهلكا رشيدا، واعيا يساهم في صنع اقتصاد أمته، وبناء طاقاتها، لا وسيلة هدم وتدمير وتخريب لها.

الخاتمة:

    بعد هذه المقالة المتواضعة، والموسومة بـــ : "الاستهلاك وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي" تم التوصل إلى النتائج التالية:

-       الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي يعبر عن مجموعة التصرفات التي تشكل سلة السلع والخدمات من الطيبات، التي توجه للوفاء بالحاجات والرغبات المتعلقة بأفراد المجتمع، والتي تتحدد طبيعتها، وأولياتها بالاعتماد على أحكام وضوابط الشريعة الإسلامية، بغرض الاستعانة بها على طاعة الله عز وجل.

-       الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي عبارة عن الاستخدام المطلق للسلع والخدمات في المجتمع، بغية الحصول على أقصى إشباع ممكن للحاجات الإنسانية المتعددة.

-       الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي استهلاك ترفي لا هم له سوى الإشباع المادي دون توجيه ولا ترشيد، مما أدى به إلى السقوط في هاوية الأزمات الاقتصادية المتتالية، في حين أن الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي استهلاك رشيد يقوم على مفهوم متوازن يجمع بين الاعتدال، والاستخدام السليم والأمثل للسلع والخدمات، مما يحقق للفرد إشباعا ماديا ومعنويا يعينه على أداء دوره في عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض.

-       هناك العديد من الضوابط الشرعية التي تعمل على ترشيد الاستهلاك في المجتمع، ومن هذه الضوابط: دائرة الاستهلاك الحلال، النهي عن الإسراف والتبذير، وترتيب أولويات الاستهلاك وغيرها.

تم بحمد الله تعالى وتوفيقه

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* البروفيسور: محمد دمان ذبيح: جامعة محمد العربي بن مهيدي – أم البواقي- الجزائر، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. 


[1] - وهذا غير الاستهلاك الذي نراه اليوم في دول الشرق والغرب استهلاك ترفي كمالي فرضته وشجعت عليه وسائل الإعلام المعاصرة، حتى بات المستهلك يضطر إلى الاستدانة ،والاقتراض من البنوك والمصارف بغية إشباع حاجاته ورغباته التي ليس لها حدود، والباحث في أسباب الأزمة المالية العالمية الحالية يجد أن لها جذرين أساسين هما: الرغبة في الاستهلاك المفرط، ونظام الفائدة المجحف.

[2] - يقصد بالضوابط الشرعية بصفة عامة الأحكام الكلية التي تنطبق على معظم الجزئيات موضوع التقويم، ويقصد بها في هذا المقام مجموعة الأحكام، والمبادئ الكلية التي تضبط سلوك المستهلك بصفة عامة.

 

[3] - الإسراف هو صرف الشيء فيما ينبغي زيادة على ما ينبغي ، بخلاف التبذير فإنه صرف الشيء فيما لا ينبغي، انظر الشرباصي ،المعجم الاقتصادي الإسلامي، ص: 28.

[4] - رواه الإمام أحمد برقم 4269.

[5] - للمزيد انظر يوسف القرضاوي ، دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، ص: 217.

[6] - عبد المنعم غفر محمد، النظرية الاقتصادية بين الإسلام والفكر الاقتصادي المعاصر، م1، ص: 32.

[7] - المرجع السابق ، ص: 173.

[8] - عبد الغني عبود، ، التربيـة الاقتصادية في الإسلام ، القاهرة ، ص : 157.

[9] - عبد الجبار السبهاني ، نموذج الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي، www.cibafi.org

[10] بوهنتالة إبراهيم ، صوابط الاستهلاك والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي ، ص : 268.

[11] - للمزيد انظر شحاتة حسين حسين، القيم التربوية والضوابط الشرعية للسلوك الاستهلاكي الإسلامي، ،ص:20 وما بعدها.

[12] - وذلك بتحقيق التوازن بين العرض والطلب، واستكمال هيكلة الاستقرار بين عامـلي الإنتاج والاستـهلاك، للمزيد انظر:  صلاح الدين  علي الشامي ، الاستهلاك ظاهرة بشرية في الرؤية الجغرافية، ص: 382.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
استجابةً لدعوة رئيس الشؤون الدينية التركي.. القره داغي يشارك في افتتاح 51 مسجدًا بمدينة كهرمان مرعش
السابق
المغرب.. رئيس حركة التوحيد والإصلاح يدعو الطلبة لإحياء القضية الفلسطينية في الجامعات المغربية ومقاومة التطبيع

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع