البحث

التفاصيل

غزو بدر الكبرى بين بناء المؤسسات والتأييد الإلهي (4/4 والأخيرة)

الرابط المختصر :

غزو بدر الكبرى بين بناء المؤسسات والتأييد الإلهي (4/4 والأخيرة)

كتبه: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين 

**

- اقرأ: غزو بدر الكبرى: بين البناء المؤسسي والتأييد الإلهي (1/4)

- اقرأ: غزو بدر الكبرى: بين البناء المؤسسي والتأييد الإلهي (2/4)

- اقرأ: غزو بدر الكبرى بين بناء المؤسسات والتأييد الإلهي (3/4)

**


3. التأييد الإلهي: وهو العنصر الظاهر الخفي في حياة المسلمين، فهو ظاهر كعلامة إيمانية، تفيد الدعم والجزاء العاجل للمؤمن نتيجة إيمانه بالله وثمرة من ثماره، فيؤيده الله بحسن النتائج والثمار المرجوة، وفي نفس الوقت هو خفي في علاقته بالأسباب الأخرى ذات الطابع المادي الموضوعي في حركة الإنسان، في كل ما يجب عليه القيام به في تحقيق مصالحه الدنيوية... فمثلا هل ينال المؤمن التأييد الألهي بالمطلق، حتى إذا قصر أو عجز عن توفير سبب من أسباب النجاح المطلوبة في أمر من الأمور؟ وهل يحرم غير المؤمن من هذا التأييد إذا أصاب اجتهادُه الأسباب المؤدية للحقائق التي وضعها الله طريقا لمحصلة معينة؟

ذلك ما سنحاول توضيحه هنا.

 إن كل اجتهاد بشري مطلوب ومثمن في العرف الإنساني، ويقدر حق قدره، ولكن ليس كل اجتهاد مصيب ومحقق لكل الأهداف؛ لأن الاجتهادات كلية وجزئية، وتحقيق الأهداف كلية وجزئية أيضا.

فالاجتهاد الجزئي له قيمته وله وموقعه في تحقيق الأهداف، ولكنه لا يتجاوز موقعه، ومن ثم لا ينال من التأييد الإلهي إلا القدر الذي يستحق، وحسب موقعه من عملية الأهداف والغايات الكبرى...

ومن ثم لا يقر الاجتهاد ويثمن إلا بالقدر الذي كان صوابا موافقا لقوانين الله في الوجود ومناسبا، فلا يظهر التأييد الإلهي إلا دعما وتأييدا لما قرره الله في سننه الجارية على البشرية، ولذلك كان تأييده سبحانه مطردا لجميع الجهود الموافقة لسننه سبحانه ومناسبة لها، فكل من وفّر شروط النجاح للحصول على أمر ما، وكانت هذه الشروط مطابقة ومصحوبة بانتفاء الموانع، وفّقه الله إلى نيل الثمار المرجوة من ذلك النشاط (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء 20]، ومن لم يُوفق في ذلك لن يكتب له التأييد؛ لأنه أخطأ الطريق أو قصر في جانب من جوانبه.

وهذه السنن والقوانين الثابتة يمكن إجمالها فيما قرره الأستاذ الطيب برغوث في مشروعه الفكري العملاق: "منظور السننية الشاملة" وهو أن الله استخلف عباده في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ) [البقرة 30]، ووضع بين أيديهم ميزانية تسخير، بما سخر الله لهم من موجودات لا حصر لها (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية 13]، للقيام بواجب الاستخلاف.

وقد لخص لنا الأستاذ ذلك في كليات سننية: أربع منها خاصة بسنن الاستخلاف، وأربعة أخرى خاصة بسنن التسخير[1]، وكل ذلك مسبوق بالإجابة عن الأسئلة الوجودية، التي تضع الإنسان في موقعه الرسالة، وفق مسلمات منطلقها الوجود نفسه، الذي يشعر به كل الناس ويعبرون عنه بصور مختلفة، فيما يلمسون من الوجود الإلهي، والوجود الكوني، والوجود البشري.

ولكن بحكم أن غرضنا هنا هو الإشارة إلى ميزانية التسخير تحديدا، ومنها على وجه الخصوص "سنن التأييد"، فإننا لا نطيل الكلام في الإجابة عن الأسئلة الوجودية المشار إليها، أو سنن الاستخلاف، وإنما نكتفي بالإشارة إلى عناوين كليات سنن الاستخلاف الأربع وهي: سنن الابتلاء، وسنن التدافع، سنن التداول، سنن التجديد، لما لها من علاقة عضوية وطيدة بالموضوع. وهي المنظومة السننية الناظمة لتفاعل الإنسان مع الواقع الذي يعيش فيه، وفق الخبرتين الرساليبة والتاريخية.

أما منطومة سنن التسخير وهي أربع كليات كما أسلفنا وهي:

كلية سنن الآقاف: والمتمثلة في القوانين المتعلقة بالإنجاز في عالم المادة، وفي مثالنا هنا، في غزوة بدر، قد عمل الصحابة على توفيرها بأفضل ما يكون، عددا وعدة وتخطيطا عسكيا؛ بل من شدة الحرص على ذلك خالف الحباب بن المنذر اختيار النبي صلى الله عليه وسلم، كما صُوِّب موقف النبي صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى، لصالح رأي عمر بن الخطاب، الذي قرر الله أنه خطأ عسكري في معركة كان لا بد أن يذوق فيها العدو طعم الهزية بأقوى ما تكون، بسبب اعتداءاتهم ومظالمهم التي عانى منها المؤمنون في مكة وفي المدينة أيضا.

كلية سنن الأنفس: وهي القوانين الناظمة لحركة الإنسان النفسية والاجتماعية والعلاقات بين مكونات المجتمعات أفرادا وجماعات، وقد لمسنا ذلك فيما يتعلق بالإعداد النفسي والاجتماعي والبناء المؤسسي، فيما أُنْجز من بناء علاقات اجتماعية قوية، ابتداء من عملية المؤاخاة التي كانت مع بداية الهجرة، وبناء المسجد، وإصدار الوثيقة التي تحدد مواقع أفراد المجتمع وفئاته وواجباتهم تجاه بعضهم البعض، وفي إطار المعركة فقد ظهرت مراعاة هذه القوانين في التحريض على القتال وفي الوعد بالنصر والتأييد، لما في ذلك من البعث على الاندفاع والاستماتة في سبيل تحقيق النصر الموعود...، وكل ما أنجز خلال فترة السنتين هاتين يدخل في هذا الجانب من التعامع مع الحياة وبناء المؤسسات,

كلية سنن الهداية: وذلك فيما يتعلق بالأحكام الشرعية المتعلقة بمفردات الحياة كلها، وذلك قد عاشه الصحابة بمجرد دخولهم في هذا الدين واستعداداتهم (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء 65].

وبعض الأحكام التي لم يعرفها الصحابة قبل بدر، قد نبهوا إليها بفضل هذه المعركة التي تمثل المنعرج في تاريخ المجتمع المسلم في بناء مؤسسات الدولة بجميع تفاصيلها ومقرراتها الشرعية.

وعلى رأس هذه المقررات لكلية سنن الهداية، العبادات المحضة التي أوجبها الله على عباده، عربون صدق إيماني ووفاء منهم تجاه علاقتهم بالله.

فقد اكتمل تشريع الصلاة التي فرضت في مكة بمناسبة الاسراء والمعراج، كما فرض الصوم والزكاة في هذه السنة أيضا، أما الحج فقد تأخر إلى سنوات فيما بعد.

إن سنن الهداية هي قوانين الحلال والحرام، فيها المتعلق بالعلاقة بين المكلف وربه، وفيما الخاص بعلاقة المكلف بالعباد، وجميعها يطلب ويقام طلبا للرضوان الإلهي وليس لمجرد مصلحة ذاتية أو آنية، أما ثمار هذه الأفعال على المستوى الاجتماعي فممتدة على طول الحياة وعرضها، أما بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وقمعا للنفس الأمارة، ودعما للنفس اللوامة.   

كلية سنن التأييد: وتشمل كل يتعلق بالموافقة والتصديق الإلهي على الفعل الإنساني عموما.

ذلك أن الإنسان مطالب بأن تكون أعماله موافقة لقوانين الله في الوجود... ثم يأتي فعل الله الموافق والمصادق على الفعل الصحيح والمناسب اعترافا بصديقيته ومناسبته –زمانا ومكانا وحالا-.

والتأييد الإلهي ليس من فعل الإنسان، وإنما هو فعل للتعبير عن محصلة لكشف الحقائق الناظمة للوجود، التي يكتشفها الإنسان في مسيرته التفاعلية مع الطبيعة والحياة والغيب.

فكل فعل إنساني وفر الشروط المطلوبة للحصول على مكسب ما، مع انتفاء الموانع، فإن الله يؤيد مسعاه، تصديقا وتأييدا للمسار الذي هو مسار موافق لسنن الله، وليس رضى مطلقا على الفاعل؛ لأن الفاعل المصيب للهدف قد لا يكون مؤمنا، وإنما أصاب السنة بفضل إيمانه بقوانين علمية محضة تؤدي إلى تلك الثمار، فيعطى من التأييد وفق ذلك، وذلك من عدل الله سبحانه في خلقه وتثمينه للفعل المثمر؛ لأن الذي لا يومن بالله مثلا، قد يكشف بجهده العلمي قوانين ناظمة للوجود، فيطبقها ويعمل بها ويحقق نجاحات كثيرة في صالح الحياة، فذلك هو التأييد الخاص به، تصديقا للاكتشاف واعترافا بالجهد المعرفي تحديدا، وليس رضى عن سائر أفعاله التي قد لا تكون موفقة في الجوانب الأخرى إيمانية أو معرفية.

أما التأييد الإلهي التام، فهو تأييد لكل من يوفق في إقامة وتوفير ومراعاة سنن الآفاق والأنفس والهداية كلها، ثم بتوفير المفردات المتصلة بالتأييد المباشر، إيمانا وتصديقا بالعلاقة التي بين القوانين الناظمة للحياة وواضعها وناظمها سبحانه وتعالى، وذلك من مقررات الإيمان الضرورية، ومن مفردات التأييد الإلهي: الدعاء والصبر والتوبة وهي مفردات ثلاث تكفي للتعبير عن فكرة التأييد هذه وتطبيقاتها على غزوة بدر موضوع هذا المقال، وقل مثل ذلك في الشكر والدعاء والذكر...إلخ.

واكتمال هذه الصورة في التوافق التام مع منظومة السنن التي أظهرت فعل المؤمن عندما يظفر بالتأييد الإلهي وكأنه خوارق للعادات، وكما جاء في الحديث القدسي "من عادى لي وَلِيّاً، فقد آذَنتُه بحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مِنْ أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كُنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألَني أعْطَيتُه، وإن استَعَاذَ بي أعَذْتُه، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله، تردّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَساءَتَه"[2].

ونلمس هذا المستوى في التفاني في ذات الله، في جميع الجهود المبذولة في تاريخ الأمة بطولها وعرضها، وليس قاصرا على الصحابة أو بعض حالات الصالحين الذين بدوا وكأنهم خصوا بكرامات خارجة عن المألوف، وهي في الحقيقة كمال في التفاعل مع سنن الله في الوجود تفاعلا إيجابيا من غير تفريق بينها، لما لها من سلطان بيِّن في حياة البشر؛ بل إن الله أرادها كذلك، فلا فرق في التعامل مع سنن الله في الوجود وقوانينه، بين قانون فزيائي أو قانون سياسي أو قانون فقهي. فالذي يرمي بنفسه من الطابق العاشر، مخالف لقانون الجاذبية، ويتحمل مسؤولية ذلك فيما يتعرض له من إيذاء، ومن يتجاهل الشورى في الفعل السياسي، قد خالف قانون الاجتماع والسياسة، ويتحمل نتائج ذلك فيما تتسبب فيه المخالفة من اختلالات، ومن يرتكب معصية قد خالف حكم الله، ويتحمل مسؤوليته أمام الله يوم القيامة، فلا فرق بين هذه النماذج الثلاثة، إلا في جنس الجزاء وزمنه. فمن يخالف قانون الجاذبية فإن جزاءه فوري، وأما من تجاهل الشورى فثماره لا تكون فورية، وإنما تقد كون أبطأ زمنيا؛ لأن فعل الأفراد في الجماعة يثمر مع الزمن، ولكن المقطوع به أن تجاهل الشورى يؤدي إلى ظهور المظالم، والظلم مؤذن بخراب العمران كما يقول ابن خلدون، أما المعصية التي هي ثمرة المخالفات الشرعية، فإن ثمارها أبطأ من النموذين الآخرين، لكون ثمار المعاصي لا تكون في الغالب في الدنيا لأن الجزاء عليها يكون يوم القيامة.

لقد أطلق ابن تيمية رحمه الله مصطلح "الطاعات العقلية" على الفضائل التي تدرك بالعقل، وقال "وليس الغرض بتسميتها عقلية إثبات كون العقل يحسن ويقبح على الوجه المتنازع فيه؛ بل الغرض ما اتفق عليه المسلمون وغيرهم من التحسين والتقبيح العقلي الذي هو جلب المنافع ودفع المضار وإنما الغرض اتفاق العقلاء على مدحها - مثل الصدق والعدل وأداء الأمانة والإحسان إلى الناس بالمال والمنافع ومثل العلم والعبادة المطلقة والورع المطلق والزهد المطلق"[3]

ومن ثم إطلاق مصطلح "المعاصي العقلية" في مثل هذه المخالفات التي لا تشملها كلية سنن الهداية بشكل مباشر؛ لأن الواقع أن مخالفات سنن الله كلها معاصي لله سبحانه؛ لأن الله هو واضع هذه السنن كلها، فيما يتعلق بسنن الآفاق وسنن الأنفس وسنن الهداية، فالذي خالف قانون الجادبية قد عصى الله، والذي خالف قوانين الاجتماع والسياسة قد عصى الله أيضا، والذي خالف حكما شرعيا قد عصى الله...، ولكن الفرق بين هذه المعاصي، في مستواها وفورية وبطء استحقاق الجزاء فيها، وفي مستواها في ميزان الله سبحانه.



[1]- الطيب برغوث، الأطروحة السننية الخلدزنية، ونظرية المدافعة والتجديد، 4 1 دار النعمان الجزائر، سنة 2017 ص 77 - 95

[2]- رواه البخاري، عن أبي هريرة، ابن الأثير، جامع الأصول رقم 7282

[3]- ابن تيمية، مجموع الفتاوى 20/68


: الأوسمة


المرفقات

التالي
إندونيسيا تشهد مظاهرات حاشدة دعمًا لفلسطين ورفضًا للعدوان الاحتلالي على غزة
السابق
معركة النقود والحبوب!

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع